دخل التحريض ضد الرأي الآخر مرحلة جديدة في المنطقة العربية. فبفضل عقلية الاستبداد أصبحنا ندور حول أنفسنا عندما نناقش كل موضوع أكان ذلك الأمر مرتبطا بالسياسة او بأحداث راهنة تمس الحكومات وتمس مروياتها أو الرأي السائد في وسائل الإعلام الرسمية. المواطنون العرب في شتى دولهم يتحدثون فوق رؤوس بعضهم البعض وقلما يتحدثون لبعضهم البعض خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويتم ذلك بفعل واضح من مجموعات تتبنى وسائل محددة في تعويم كل نقاش وخلط كل فكرة، فمجرد وضع فكرة في طائلة التخوين والتكفير تصبح عرضة للتشويه. وهذا هو الهدف الاساسي من الحملات التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
التنمر السياسي والهجوم الغزير ليس عفويا. فإن تكلم فرد مثلا عن الرئيس الأسد يقفز من يقول له «وماذا عن حرب اليمن لما لم تتكلم عنها؟» وان تكلم آخر عن حرب اليمن يقول آخر «وماذا عن إيران وقمعها للسنة». وإن تحول محاور لاغتيال جمال خاشقجي تأتي اجابة: «لماذا لم تتكلم عن تركيا او عن أردوغان او عن اغتيال مارتن لوثر كينغ ومالكولم اكس في الولايات المتحدة» وان اتهم فرد بالفساد كان الرد السريع «وماذا عن» فساد الآخرين. بل وان اتهمت دولة بانتهاك حقوق الانسان كان الرد «وماذا عن» تاريخ العبودية في أمريكا. هذا الأسلوب يقمع كل سعي لمناقشة جادة عبر ربطه بأمر آخر لا يشبهه مما يحول كل نقاش للسطحية وغياب تحمل المسـؤولية تجاه الفعل.
وتتعمد منهجية «ماذا عن» وضع معلومات لا تتميز بالدقة، كما وتتعمد طرح احداث لم تقع، مما يعمق غياب المنطق في كل حوار. ليس الهدف الحقيقة، فالحقيقة هي التي يراد تغييبها ويراد اغتيالها أمام المواطن، بل يصبح الهدف أن تغدو الحقيقة مشوهة لا وجود لها.
لقد استمد هذا المنهج أساسياته والمعروف «بماذا عن» whataboutism من وسائل الانظمة الستالينية والشيوعية في زمن الحرب الباردة، فأمام كل موضوع عن الشيوعية ونظامها وانتهاكاتها، كان ذلك الاسلوب يطرح السؤال «وماذا عن الملونين في أمريكا». ثم و «وماذا عن جشع الرأسمالية وماذا عن حقوق العمال في بريطانيا»، كانت تلك محاولات لتفادي أدنى نقاش عن الموضوع المشار اليه، لكنها لم تنقذ الشيوعية من الانهيار. ولقد جدد الرئيس ترامب هذه المدرسة منذ العام 2016. فعندما قام أقصى اليمين بتجاوزات في مظاهرة كبرى إنتهت بمقتل احد المحتجين في فرجينيا نجده عوضا عن إدانة العمل بوضوح، قال «وماذا عن اليسار وأعماله».
لو لم يتصد الإنسان للعبودية ويسميها ويواجهها لاستمرت ليومنا هذا، ولو لم يتصد الناس للأبارتهايد في جنوب أفريقيا لاستمرت، ولو لم يتصد الناس للاستعمار لاستمر ليومنا هذا
في هذه المدرسة لا يوجد ظالم ومظلوم،، ولا حق وحقوق، ولا عدالة، فالفلسطينيون الذين أخذت أراضيهم مثل الجيش الإسرائيلي الذي يقتحم القرى والمدن، والذي ينفذ مجزرة بحق شعبه ليس ملاما لأنه يوجد آخرون يقومون بمجازر أسوأ. وعندما ينتقد ناشط مصري سلسلة الإعدامات في القاهرة ينطلق البعض فورا نحو «ماذا عن إعدامات إيران وإعدامات دول أخرى». ففي هذه الاستراتيجية مقارنة دائمة مع أسوأ النماذج.
إن منهجية «وماذا عن»: مقدمة لمزيد من الانتهاكات وقتل لأسس الحوار والتعلم. فالانتهاكات لا تتوقف الا بتسميتها والتركيز عليها واثبات عقمها وتحمل مسؤوليتها، تماما كما حصل في انتهاكات كثيرة في التاريخ. لو لم يتصد الإنسان للعبودية ويسميها ويواجهها لاستمرت ليومنا هذا، ولو لم يتصد الناس للأبارتهايد في جنوب أفريقيا لاستمرت، ولو لم يتصد الناس للاستعمار لاستمر ليومنا هذا.
لهذا تصطدم إستراتيجية «ماذا عن» بالذين يقاومون الظلم، ويتصدون للانتهاكات التي تمس حقوق الافراد والجماعات. وتصطدم تلك الاستراتيجية بنفس الوقت بمقاومة الضعفاء والشعوب المقهورة لعمليات قمعها وسلب حقوقها. فاستراتيجية «ماذا عن» تمكن القوي على حساب الضعيف وهي وسيلة لتبرير كل تجاوز بحق الناس والمجتمع.
هذا الاسلوب يميع القضايا عبر التأكيد بأن انتهاك حقوق الانسان والفساد والديكتاتورية أمور طبيعية تمارسها كل الدول. في ظل أجواء مثل هذه لا يعود بالإمكان مناقشة القضايا الأساسية، فهل الشبان المصريون الذين أعدموا أبرياء أم مذنبون؟ وهل عقوبة الإعدام مناسبة أم يجب أن تجرم بسبب اشكالات كثيرة مرتبطة بالإعدام؟ لكن عندما نثير «وماذا عن» تتوقف الاسئلة وينتهي النقاش.
في زمن الغزو العراقي للكويت عام 1990 أستخدم ذات الأسلوب من قبل الرئيس العراقي صدام حسين، فقد قارن صدام حسين وضعه في الكويت بوضع سوريا في لبنان وإسرائيل في فلسطين. كان السؤال الأساسي لدى انصار صدام: «ماذا عن» إسرائيل في الجولان وفلسطين وسوريا في لبنان وأمريكا في بناما. لكن أيا من تلك الأسئلة لم تتعامل على الإطلاق مع المسألة الأساسية وهي قيام صدام باحتلال الكويت وتدمير بنية الدولة والشعب وإلغاء وجودها الكياني.
استراتيجية «ماذا عن» وسيلة لتمييع كل قضية و لمنع كل نقاش، ولإخفاء الجرائم، ولانتهاك حقوق الإنسان. تلك طريقة مثلى لإدامة الظلم والتجاوز لفترات من الزمن. في السنوات القليلة الماضية انتشر الذباب الالكتروني الذي يستخدم هذا الأسلوب. فكل جواب وكل سؤال يتم قتله بأمثلة: «وماذا عن».
هذه المدرسة تشتري الوقت، وهي غير قادرة على إيقاف زحف التاريخ ولن تمنع تعلم الناس أبجديات الحقوق وأسس الحقيقة. تلك المدرسة لن تمنع من انخراط الناس بكل القضايا المحقة والعادلة. أساليب «ماذا عن» قد تؤخر من إلمام الناس بحقوقهم لبعض الوقت، وهي فعلا قد تنجح في نشر غشاوة على عيون الناس، لكنها لن تستطيع أن تخدعهم طوال الوقت. لقد تغيرت شعوب المنطقة وهي اليوم في حالة بحث عن الحقيقة والحقوق كما لم يسبق لها أن فعلت منذ الاستقلال.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
رائع ما نشره د شفيق الغبرا تحت عنوان (الذباب الالكتروني: واستراتيجية «ماذا عن») فهو يتكامل مع ما نشره بسام البدارين تحت عنوان (الأردن: عندما تفتك «الرعوية» بدولة الانتاج) ويتعارض مع موقف د شفيق الغبرا تجاه العراق بعد 2/8/1990، لماذا؟
لأنه يلخص إشكالية الأتمتة والحداثة مع التزوير المتعمد في وسائل الإعلام بواسطة الموظف العالة/الآلة/الروبوت (الذباب الإليكتروني) لمعنى المعاني، لتحقيق أهداف سياسية للنخب الحاكمة.
في الأردن مثلا، الذي يعتمد على سياحة الرعاية الصحية بالذات، كأحد أهم وسائل الدخل في المملكة.
لأن هل الإنسان المنتج أهم، أم الإنسان العالة (الألة/الروبوت/الذباب الإليكتروني) أهم، في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني؟!
في الأردن والمغرب وحتى الكيان الصهيوني بالإضافة إلى مصر وتركيا مثلا،
ليس كدول مجلس التعاون في الخليج العربي، أو العراق أو حتى إيران،
التي فيها مصادر الإيرادات، لا علاقة لها بالرسوم أو الضرائب أو الجمارك من الإنسان والأسرة والشركة المنتجة في الدولة؟!
الإشكالية تبدأ عندما النخب الحاكمة، لا تعترف بوجود إنسان أو أسرة أو شركة منتجة في الدولة، يجب أن تحترم معنى المعاني اللغوية والمهنية على الأقل، حتى لا تؤثر على الإيرادات في الدولة.
لأن عقلية الذباب الإليكتروني، تظن أن وسيلة الإيرادات، هي في تغيير تلبيس طواقي التدليس (النفاق والكذب) بين فلان وعلان، من دول الخليج والبنك وصندوق النقد الدولي،
كما هو حاصل في دولنا كلها، بعد 2/8/1990، بداية من الجزائر والسودان؟!
ماذا عن هو نفس الأسلوب الإسرائيلي ايضاً الذي تتبعه منذ سنين طويلة في هيئة الأمم المتحدة وفي كل مجلس دولي وحوار حول إحتلالها وعدوانها وجرائمها وعنصريتها، وكأن وجود أنظمة قمعية مجرمة يبرر ما تقوم به إسرائيل من جرائم وعنصرية. وكأنه إن كان هناك فاشية في إسبانيا مثلاً يصبح وجود فاشية في فرنسا شيء مقبول ويجب عدم إدانته ومحاربته والتخلص منه.
واجهت كثيرا هذه ال “ماذا عن؟” و كان جوابي دائما واضحا سهلا مباشرا..”خلينا في الموضوع”…الجريمة هي الجريمة ..فانا لا أبرر جريمة أحد …و لست منحازا الا الى الحق و العدل.
رب ضارة نافعة فان هذه ال “ماذا عن؟” ستساعد في التركيز على المبدأ وادانة الجريمة
على سبيل المثال كان المنحازون الى جانب النظام الاسدي يبررون انحيازهم بان من يدعم الثورة ليسوا ديموقراطيين و لا حتى اخلاقيين. وكنت أقول ان الموضوع هو مطالب الشعب السوري و جرائم النظام. اما الداعمون المشار اليهم فلهم مصالحهم و جرائمهم و يبقى الثابت ان هناك مطالب مشروعة و جرائم مضادة.
و بالنسبة للاعتراف بالعدو الاسرائيلي فكان المتخاذلون يبررون بان الفلسطينيين انفسهم قد اعترفوا باسرئيل وأقول انه حتى لو انحاز الفلسطنيون الى اسرائيل و استسلموا تماما او ابيدوا فان القضية هي قضية كل عربي و مسلم و مسيحي و شريف في العالم