الرأسمالية على الطريقة اللبنانية: نوبة معاداة الشيوعية

حجم الخط
1

لم تترك الرأسمالية على الطريقة اللبنانية، وبخاصة في ظلّ «الجمهورية الثانية»، مناسبة لإنتهاك مبدأي المبادرة الفردية والملكية الخاصة التي تعد مقدّمة الدستور المستحدثة بعد الطائف بكفالتهما، إلا واقتنصتها.
فمن قانون اقرار قانون الشركة العقارية لإعمار وسط بيروت (سوليدير) عام 1994، الذي يلزم المالكين العقاريين وأصحاب الحقوق تقديم عقاراتهم وأملاكهم لها في مقابل أسهم نقدية، إلى حبس المصارف الخاصة منذ أربعة أشهر لأموال المودعين وأجور الموظفين دون أي صك قانوني يجيز ذلك. ومن العداء المتأصل في الرأسمالية اللبنانية لقانون العرض والطلب، منذ التأسيس الكولونيالي للكيان نفسه، تحصيناً للوكالات الحصرية التجارية في مقابل ازدراء كل حماية جمركية، إلى تعطيل العرض والطلب في سوق القطع، والإصرار مع ذلك على تثبيت السعر الرسمي لليرة اللبنانية في مقابل الدولار، وتهاوي السعر الفعلي لها، الذي هو مختلف بدوره عن سعرها في السوق السوداء المرتبطة بالتربّح الذي يعود فيغذي المصارف من فارق السعر، في لعبة مصادرة موصوفة لقسم هائل من مقدّرات اللبنانيين في الأشهر الماضية.
ومن محاصصة لا تترك مكاناً لأي شروط تنافسية تفاضلية في المناقصات، ولا يعود فيها التفريق بسيطاً بين «العام» و«الخاص»، إلى هزال البورصة نفسها وتخبّط مشاريع خصخصتها. هي رأسمالية إذاً لا تقيم عهداً لا لملكية خاصة ولا لمبادرة فردية ولا لحيوية تنافسية ولا لعرض وطلب ولا لبورصة، لكنها في الوقت نفسه تنفر من «العدالة الاجتماعية» الذي اتفق أيضاً ورود ذكرها في مقدمة الدستور إيّاه، وتعطف على «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل». أمّا «ميثاق العيش المشترك» الذي تسقط المقدمة الدستورية شرعية كل ما يناقضه، فيبدو أنّه استقرّ فهم له بأنّه يفصل بشكل قاطع السلم الأهلي عن السلم الاجتماعي، كما لو أنّه يشترط ليقوم السلم الأهلي مصادرة السلم الاجتماعي نفسه: لكي يستقيم العيش المشترك بين «الطوائف» ينبغي أن يخضع الفقراء للأغنياء.
لم تكن هذه الرأسمالية مع ذلك هي نفسها قبل الحرب وبعدها. «الجمهورية الأولى» كانت جمهورية التجّار بإمتياز، حتى ولو أنّها وجدت في مصرفي كميشال شيحا شاعرها ومؤدلجها، ومع تحوّلها أكثر فأكثر إلى جمهورية تجارية ببيروقراطية قوية في ظلّ الشهابية. القطاع المصرفي كان مهمّاً فيها لكنه لم يصل يوماً إلى ما بلغه في «الجمهورية الثانية» بعد الحرب. ولأجل ذلك، عندما اختلف المفكران مهدي عامل وفواز طرابلسي في السبعينيات، بين تبني مهدي عامل لأطروحة الحزب الشيوعي عن وجود «طغمة مالية» ورفض طرابلسي ذلك، لأن الطغمة المالية تستلزم، حسب التصور المصاغ من قبل لينين في «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» (1916) رأسمالا مالياً متأتياً من اندماج الرأسمالين الصناعي والمصرفي كان النموذج الذي طوّره طرابلسي عن «برجوازية تجارية ـ مصرفية» هو الأقرب إلى الصواب (بما أن النظام كان يعطّل إلى حد كبير عملية التصنيع، مع كونها كانت أخذت في التنامي فعلياً منذ نهاية الستينيات). أما في «الجمهورية الثانية» فإن تكوين البرجوازية نفسها اختلف إلى حد كبير، ونمت فوقها شريحة منها، منفكة إلى حد كبير عن التجار والصناعيين والفنادقيين أو مستتبعة لهم، وهي شريحة يختلط فيها كبار المصرفيين مع كبار المقاولين مع كبار أمراء الحرب، ويتصاهرون وينجبون من بعضهم البعض، وهي شريحة تنحو إلى تشكيل «طبقة داخل طبقة»: الأوليغارشية، التي يقود قسم من أربابها في نفس الوقت أحزاباً ذات قواعد شعبية طائفية، مع تمييز يرتبط بـ«حزب الله» الذي يشكل في نفس الوقت «حرساً بريتورياً» لهذه الأوليغارشية، وحاجزاً عليها.

الصراع الطبقي مرتبط بخمسة آلاف عام من التقسيم الاجتماعي للعمل واكتناز الفائض الاجتماعي في تاريخ البشرية ولم ينتظر نشأة الأفكار الاشتراكية الحديثة لتقوم له قائمة

عندما أعلن عن قيام «الجمهورية الثانية» في ظلّ الوصاية السورية بعد الحرب، لم يكن «حزب الله» تنامى بالشكل الذي نعرفه اليوم، ولا كانت المصارف قد تنامت بالشكل الذي نعرفه اليوم، وفي الحالتين نحن أمام نماذج «دولة داخل الدولة» متغذية بالدولة أو مطوّعة للدولة. راهنية التحليل الماركسي لتاريخ «الجمهورية الثانية» ترتبط إلى حد كبير بهذه القدرة على الوصل بين هاتين الإنفتاختين المتوازيتين من جهة، والمتداخلتين من جهة ثانية، بين تضخّم المصارف وبين تضخّم «حزب الله».
بدلاً من ذلك، فقد تواصلت المطاعن الهزلية بأهلية الماركسية وسيطرت على الانتلجنسيا والميديا في تاريخ الجمهورية الثانية، واليوم، بعد أشهر من انطلاقة الإنتفاضة الشعبية ذات العمق الطبقي، تتخذ هذه المطاعن الهزلية شكل نوبات «معادية للشيوعية»!
فمن أحابيل هذا الشكل الأوليغارشي التبعي من الرأسمالية أنّه يدافع عن نفسه دائماً بالإعتراف بأنّه «مسخ» رأسمالية، محمّلاً ما يعترض تحوّله إلى رأسمالية جمّة إلى شروط وظروف طرأت عليه وليست فيه ومنه. هو يدافع عن نفسه بالقول دائماً: الرأسمالية الحقيقية مني براء. ويظهر العجب بالمتابعة: لكن أي مسّ بـ«مسخيتي» أمر مرفوض، وهو «شيوعية». يكثر مريدو الرأسمالية اللبنانية من رؤية أشباح الشيوعية في أي شيء كان. إن حدثتهم عن «التخطيط» قالوا هذه شيوعية مرذولة، وإن حدثتهم عن التصنيع قالوا هذه آفة ستالينية، ومؤخراً وصف أحد أرباب المصارف المودعين الذين يطالبون باسترداد حرّ ماله المودع في مصرفه بأنّهم يعملون على انبعاث «الشيوعية». هذا الملعون الأبدي الذي يكفي الرأسمالية اللبنانية عدم الوقوع في إغوائه وإمتلاكها الوعي القويم للتنفير منه، ولو كانت حصيلة ذلك الدفع قدماً بالإفقار والتسريح من العمل ومصادرة أموال الناس إلى أقصى حد.
بعد 17 تشرين، انتشت مجدّداً معاداة الشيوعية على الطريقة اللبنانية، ووردت هذه المرّة من كذا فريق نظامي. فعندما هال الثنائي الشيعي «حزب الله ـ أمل» انبعاث حيوية الشيوعيين واليساريين جنوباً وبقاعاً، عادت هذه النعرة ضدّ «الفكر المستورد المنقرض»، واتخذت طابعاً خشناً في معظم الأحيان، لم يحل دون طرافة ردّ محازبي «أمل» على هتافات الشيوعيين في بلدة كفرمان بهتاف خرافيّ من قبيل «حرامي حرامي، تشي غيفارا حرامي». ولا يعتقد أنّ هذا من باب علمهم بأنّ الثائر الأرجنتيني الأممي غيفارا، الذي كرّم رئيس «أمل» والبرلمان اللبناني نبيه برّي ابنته قبل سنوات، كان حاكماً للمصرف المركزي بعد الثورة الكوبية. وسريعاً، عادت حصّة الأسد من معاداة الشيوعية للحريريين وجماعات 14 آذار. بخاصة مع توسّع التحركات ضد المصارف الحابسة عن الناس أموالها، المصارف التي انحازت لها مع ذلك أجهزة الدولة الأمنية بقرار من وزيرة تصريف الأعمال الداخلية في الحكومة المخلوعة.
سئل القوم المتحركون ضد المصارف لماذا لا تتوجهون شطر المجلس النيابي، فلما حاولوا محاصرة هذا المجلس المطعون بشرعيته على نحو واسع في الإنتفاضة، علت مجدّداً نوبة «تشويع» (من شيوعي) المنتفضين، مع التأكيد في نفس الوقت بأن «الثورة الحقيقية»، أي تلك التي يحبذها أرباب المصارف ضدّ الفساد، هي براء من مرتزقة الإتحاد السوفياتي المختفي. وكلّ هذا مع عبارات مستاءة من هذا «النفس الشيوعي» أو هذا «الحقد الطبقي الريفي». وطبعاً، إذا كان يساريوّ لبنان مقصرّين في متابعة التراكم الفكري الغني، فلسفياً واقتصادياً وفي مختلف الإنسانيات، المرتبط بإعادة التأسيس للأفكار المساواتية والاشتراكية والشيوعية على امتداد الكوكب منذ أواخر القرن الماضي إلى اليوم، فإنّ الجهالة المطلقة بكل هذا، هذه الجاهلة الجاهلة لجهلها، السعيدة به، استرسلت في هذه النوبة ليس ما يثنيها.
وهناك بطبيعة الحال من ينقص من نسبة اليساريين في الإنتفاضة ليطعن في أهلية الحديث عن صراع طبقي في لبنان اليوم، مع أن الصراع الطبقي مرتبط بخمسة آلاف عام من التقسيم الاجتماعي للعمل واكتناز الفائض الاجتماعي في تاريخ البشرية ولم ينتظر نشأة الأفكار الاشتراكية الحديثة لتقوم له قائمة. تماماً مثلما أنّه قلّما انوجد الصراع الطبقي بشكل «بلوري» واضح منفصل عن غيره من الصراعات في التاريخ، الإ أن مشهديات المواجهة الأخيرة في بيروت كانت مع كل هذا، مشهديات صراع طبقي «بلّورية» بامتياز.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    إلى متى، متى سنتجاوز عقلية الثنائية إلى التّعدّدية في الزواج/الأسرة/الشراكة/الدولة (الإسلامية)؟! هو أول ما خطر على بالي عند قراءة عنوان (د وسام سعادة) في جريدة القدس العربي (الرأسمالية على الطريقة اللبنانية: نوبة معاداة الشيوعية) والأهم هو لماذا؟!

    سياسة نفاق ممثلي رُهبان الكنائس الأوربية في لبنان أو غيره، لا يعني هناك حب بين أي راهب أو راهبة، يؤدي إلى تكوين أسرة/شركة/دولة في أي مكان،

    وهو تكرار أول ما خطر لي على عنوان (أوروبا في ليبيا: لمَنْ تُقرع الأجراس!)، والأهم هو لماذا يا صبحي حديدي؟

    مسؤولي الدين الإسلامي في تايوان، اختاروني لتمثيل مسلمي تايوان في مؤتمر (حوار الأديان مع العلم Religion Dialogue and Science – 2019) السنوي في تايبيه،

إشترك في قائمتنا البريدية