يبدو أن الاهتداء إلى فكرة السير بخطى الخلق والتكوين، كان أساسيا من أجل تجاوز المعنى الذي يلزمنا المرئي والملموس بتبنيه، بما هو عنصر منتم إلى فضاءات المعلوم، والمندرج في حكم المفكر فيه، المستغني بالقوة والفعل، عن أي فهم إضافي أو تفسير.
والحديث عن هاجس التجاوز في هذا السياق، يقترن بتطلع الكائن إلى تكسير طوق المألوف والمعتاد، الذي يتوقف فيه حد الدلالة عن البوح، بوصفه حدا متناهيا، استنفد كل شروط القراءة والشرح. علما أن المتناهي هنا، ليس سوى الإطار الطبيعي، الذي يخضع فيه الكائن لمقومات تفاعله القدري مع واقعه ومحيطه، بعيدا عن جدوى التورط في فك شيفرة أي مجهول، عصي على الفهم المبتسر، والتفكيك الآلي. وهي المعادلة الشائكة التي يكون فيها الكائن مدعوا للاستجابة إلى أحد طرفيها، إما بالمراوحة في دائرة المفكر فيه، أو السعي إلى تجاوزها بالبحث خارجها، انسجاما مع ما يمتلكه أو يفتقده من إمكانات وقناعات.
ولعل مسألة تطوير الإمكانيات الكفيلة بتحقيق تجاوز المتناهي إلى نقيضه، هي بمثابة رهان فعلي، يضاعف به الكائن حضوره على امتداد صيرورته الثقافية والحضارية. وبالنظر لكون المعلوم هو نتاج الشروط الحسية والتجريبية، المقيدة بحد المرئي والملموس، أصبح من الضرورة ابتكار إبدالات تقنية، مؤهلة لاختراق حد المتناهي باتجاه التخوم اللامرئية، حيث يمارس اللامتناهي تخفيه وتواريه. واللامتناهي فضلا عما يحيل عليه من أبعاد فلسفية ووجودية كبرى، فإنه في الوقت ذاته، يحيل على التحولات الحضارية المؤجلة، والمنتظر تحيينها من قبل الاستشراف المستقبلي، عبر استثماره في إبدالات تقنية التي يفترض فيه إبداعها. ولعل أهم الإبدالات تجسيدا لهذا الأفق الواعد بإطلالة المنسي واللامتوقع، هو «الروبوت» الذي يمكن اعتباره النسخة المتطورة والمستقبلية للذات البشرية، والقابلة للقطع مع حدودها السابقة المؤطرة سلفا بقوانين الحواس.
ومن اللافت للانتباه أن البشرية ضمن هذا الأفق، تتجه رأسا باتجاه الأزمنة الأسطورية القديمة، لكن طبعا بصورة مغايرة ومختلفة، فحيث تهيمن الإبدالات التكنولوجية على حركية المشهد الكوني، يقف العقل البشري في الخلفية محتجبا كأي إله حديث، يشرف على توجيه دفة الكون، عبر ما ينتجه من إبدالات علمية ومستحدثة، تعفيه مشقة الكشف عن حضوره العلني.
هكذا إذن، سيكون من الطبيعي أن تتوزع مواجهة الطبيعة للكائن عبر محورين مركزيين، أولهما محور الإبدالات التقنية والرقمية، وثانيهما محور الإنسان الإله المحتجب خلف آلية اشتغال إبدالاته. إنه الإله الذي يصدر أوامره من وراء حجاب، كي تمارس التكنولوجيا التي أبدعها هيمنتها على حركية الكون، مجترحة كل السبل الكفيلة بتجاوز المتناهي، المقترن تقليديا بتفاعلية الحواس، باتجاه اللامتناهي المقترن بسلطة الإبدالات التكنولوجية، إلى جانب اللامتناهي المقترن بسلطة التخييل المجازي والاستعاري، المنجز من قبل شعرية القول والتفكير. والمساران معا يتكاملان، من حيث تكسيرهما لحصار المرئي والملموس، الذي تحرص الطبيعة منذ فجر الخليقة إلى الآن، على إقراره بوصفه الواقع الذي «يعلو ولا يعلى عليه»، وطبعا دون أن تفلح في ذلك، ما دام الكائن يتميز هو أيضا بطبيعة مضادة، قوامها تفكيك ما «هو كائن» باتجاه ما يحتمل أن يكون، على أساس اشتغال كل من التخييل واللغة اللذين لا يتوقفان عن خلخلة السائد، الجاهز، والمعطى، على الواجهة التكنولوجية، كما على الواجهة الإبداعية الصرفة، انسجاما مع القوانين المنظمة لكل منهما.
دوث الرؤية، الصادرة عن حالة الانفراج الإعجازي، هي التي تتجاوز بالكائن حدود معلومه باتجاه المنسي، كإشارة «مباركة « منها إلى تخليصه المفاجئ واللامتوقع – ولو مؤقتا – من شراسة ذلك الامتلاء العشوائي، الذي تحشو به أيدي الواقع دواخله، فتصرفه عن تلمس الطريق إلى ذاته.
والمؤكد أن تاريخ الإبداع، هو حتما تاريخ ذلك الانفتاح الفكري والجمالي، الذي دأبت على ممارسته كائنات استثنائية باتجاه الآخر، بقدر ما هو تجاوز لمحدودية الوجود التي يلزمنا واقع الحال بالخضوع لمقتضياته. وبالتالي، فإن نزوع الذات إلى تكسير طوق الحصار المكرس من قبل رتابة المفكر فيه، هو استجابة ضمنية لنداءات اللامتناهي الذي منها وبها تحظى الذات بهبة الحضور.
وهذا التصور نابع من فكرة أن الذات الفعلية التي يتمتع بها الكائن، ليست هي التي تحمل اسمه، أو تلك التي تتصف ببعض مقوماته، بقدر ما هي الذات السائرة باتجاه مضاعفها المتخفي هناك، في صيغه المتعددة، التي تكون الذات مطالبة بالبحث عنه، من أجل ردم هوة الفقد الفاصلة بينهما.
فأفق الكائن، يتجسد في مقاومته المستدامة لمختلف أنواع الحصار المادية والرمزية التي تحد حركيته في عمق دائرة المعلوم. بمعنى أن يظل مسكونا بالبحث عن لحظة الانعتاق، بما هي انفتاح روحي وفكري على ما سيأتي، وإيذان باحتمال تحقق رؤية ما كان في حكم اللامرئي. وهو احتمال غير قابل للتعميم، لأنه خاص بالنخب المصطفاة من خاصة المبدعين والمفكرين. إنه الانفراج السخي بعطاياه، الذي يغري الخطوة بالتقدم في اتجاه الهبة، كلما طاب له أن يشير إلى مكانها ومكمنها. والإشارة هنا، دعوة ضمنية للانفتاح على ما ستغتبط العين برؤيته أخيرا، وقد تخلصت عنوة من دكنة الحجب. أعني رؤية ما سيصبح ملكا لقول ما لم يكن من قبل متوقعا، أي، الرؤية الصافية المنفرجة، الهادئة المطمئنة مؤقتا، كما في حلم عابر، والتي تسمح باكتشاف ما يغني الروح والجسد قليلا، اكتشاف ما يغني المعيش، وما يضاعف من شغف الرغبة في أن تكون.
فحدوث الرؤية، الصادرة عن حالة الانفراج الإعجازي، هي التي تتجاوز بالكائن حدود معلومه باتجاه المنسي، كإشارة «مباركة « منها إلى تخليصه المفاجئ واللامتوقع – ولو مؤقتا – من شراسة ذلك الامتلاء العشوائي، الذي تحشو به أيدي الواقع دواخله، فتصرفه عن تلمس الطريق إلى ذاته. والأمر هنا يتعلق بذلك الاكتظاظ العدواني، الذي تغطي جحافله مشهد الحياة اليومية، متحولة إلى حجاب يقطع الطريق على مواكب الرؤية، باعتبار أن الرؤية في أبعادها كافة، تصبح نسيا منسيا، حالما تتعدد إكراهات المعيش وتتنوع، لتستأثر باهتمامات الحياة الخاصة والعامة، فلا تبقي على شيء مما يتطلع الحلم للتملي في جماليات احتماله. وأشير من جديد هنا، إلى محنة الامتلاء والاكتظاظ، التي تنوء الذات بثقلها، لتحجب عنها الحد الأدنى من فيض الشعاع.
لكن! مع ذلك، ثمة من «القول» ما يكتفي بالتعايش مع بأس وبؤس هذا الامتلاء. وتلك هي المفارقة المهيمنة، والمجسدة في امتثال الذوات لقدر الإقامة في ليل العدم، والتغني المأساوي بظلمة ما يتصادى فيه من تراتيل. فعلا، قد يكون هذا المنحى هو التعبير البليغ عن هويات بشرية، مجبولة على التلذذ المرضي بالغمة. إذ عبر مكابداتها المأساوية فقط، يتسنى لها أن تستمتع بضوء القمر نهارا، وبأشعة الشمس في عز الليل. أليس كذلك؟ أنت يا شبيهي الواقف على عتبة انفراجك الكبير، والمجرد من امتلائه العطن، حيث يطيب لك أن ترى بكل ما باغتك من فراغ رسولي، عبر مسافة المابين، وجه الكارثة، كما وجه السكينة.
شاعر وكاتب من المغرب
نص جميل كمًا عودنا س رشيد
متعة لغوية وفكرية لاتوصف
شكرا س رشيد
شكرا جزبلا الأستاذ علي على اهتمامك.