للرئيس الأمريكي السابق جورج «دابيا» بوش سجل حافل بأخطاء التعبير وزلات اللسان وتشتت المعاني في كلام بلا قوام وبلا فكرة ينشدها أو وجهة يقصدها. ولهذا نصحه مستشاروه، عملا بمقولة اجتراح الفضيلة من الضرورة، بأن يأخذ عيه وعجزه عن البيان مأخذ المرح والدعابة وأن يستبق السامعين والساخرين فيبادر من تلقاء نفسه إلى التندر على أخطائه وزلاته، بل وأن يرصع بها بعضا من خطبه. وقد سمع لهم الرجل وأطاع حتى بلغ حد الإجادة في أداء المطلوب، كما تشهد خطبه في الحفلات السنوية لمراسلي البيت الأبيض. إلا أن زلة اللسان التي أتاها الأسبوع الماضي أثناء خطاب ألقاه في دالاس قد كانت صادمة وملغمة إلى حد يكاد لا يصدق. زلة جديرة بأن تصير درة التاج في مدونة البوشيات، التي تباع في المكتبات ويسميها الأمريكيون تندرا «بوشيزمز»، لأنها تبز كل ما سبقها من زلات وهفوات.
قال بوش إن النظام الديمقراطي في أمريكا نظام صالح رغم نقائصه لأنه يمنح المواطن، عبر الانتخابات الحرة، فرصة تغيير الأوضاع نحو الأحسن، لكن «بالعكس من ذلك فإن الانتخابات في روسيا مزورة، والمعارضين يسجنون أو يمنعون من خوض المسار الانتخابي. والنتيجة هي انعدام آليات الضبط والموازنة، وقرار رجل واحد شن حرب طاحنة ولا موجب لها إطلاقا على العراق…»! ثم سرعان ما استدرك بوش قائلا: «أقصد أوكرانيا».
عند هذا الحد فعلت زلة اللسان فعلها: كانت نية بوش أن يتباكى على أوكرانيا، فإذا به يصدع بالحقيقة حول العراق. لم يكن يقصد أن يقول إن حربه على العراق كانت طاحنة وبلا موجب على الإطلاق، لكن الذي حدث أنه قالها، الذي حدث أن لسانه أدانه رغما عنه! إلا أن الباعث على العجب أن بوش لم يقف عند هذا الحد، بل إنه أراد أن يتذاكى فأضاف قائلا «العراق أيضا.
على أية حال… 75». عندها انفجر الجمهور ضاحكا لأنه فهم أن بوش لم يجد ما يتوسل به، في تبرير زلة اللسان هذه، إلا تقدمه في العمر. لكن بصرف النظر عما إذا كان التبرير مقنعا، فالباعث على العجب حقا هو قوله «العراق أيضا». هل كان يقصد ما يقول؟ هل كان يعني الإقرار بأن حربه على العراق عدوانية إجرامية مثل حرب بوتين على أوكرانيا؟ هذا في الظاهر ما ذهب إليه الكاتب البريطاني جوناثان كوك الذي اغتنم المناسبة ليحمل على ازدواجية معايير الإعلام الغربي الذي سارع، محقا، إلى اتهام بوتين بأنه مجرم حرب، لكنه لا يزال إلى اليوم يرى أن بوش وبلير سياسيان محترمان، وأن الأمر لا يعدو أنهما ارتكبا أخطاء دون قصد.
الكاتب البريطاني جوناثان كوك اغتنم المناسبة ليحمل على ازدواجية معايير الإعلام الغربي سارع، محقا، إلى اتهام بوتين بأنه مجرم حرب، لكنه لا يزال إلى اليوم يرى أن بوش وبلير سياسيان محترمان
أما أنهما مجرما حرب وأن خراب العراق وأفغانستان هو من صنعهما وأنه يجب تقديمها للمحاكمة على ما اقترفاه في حق العرب والمسلمين، فحقيقة لا تكاد تخطر ببال معظم الصحافيين الغربيين.
ولا مراء في أن الإعلام الغربي مزدوج المعايير. أحدث الشواهد أن «نيويورك تايمز»، هذه الجريدة المرجعية التي قد تكون الأفضل عالميا والتي لا يندر أن تبلغ بفن الصحافة مبلغ الإبداع والإمتاع، قد عنونت يوم 17 مايو/ايار «الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة تتوفى عن 51 عاما» بينما عنونت يوم 13 مارس/آذار «الصحافي الأمريكي برنت رينو يقتل في أوكرانيا». لكن لا أظن أن بوش أراد إدانة نفسه عندما قال «العراق أيضا»، بل البادي أنها عبارة أفلتت منه عرضا. وليس هذا بمستغرب منه، فهو من عاداته. ومما يدعم هذا الرأي أن من شاهد الوثائقي الذي بثه تلفزيون البي بي سي العام الماضي بمناسبة الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ايلول قد لاحظ أن كل تصريحات بوش تثبت أنه لا يزال مقتنعا أن عدوانه كان مبررا وأن حربه التي عممت الخراب وقتلت مئات الآلاف وهدمت كيان الدولة ومزقت نسيج المجتمع في العراق كانت «حربا عادلة»، حسب المفهوم الديني المسيحي.
وكنت أول ما رأيت اللقطات الترويجية للبرنامج قبل بثه قد تساءلت: ترى هل سيعبر بوش آخر الأمر عن الندم؟ لعل التطورات الكارثية في العراق وفي الجوار طيلة عقد ونصف أدت إلى إنارة بصيرته وإيقاظ ضميره؟
مبعث السؤال أن الصحافيين الأمريكيين ديفيد كورن (صاحب كتاب «أكاذيب جورج بوش») ومايكل أيسيكوف قد نشرا عام 2007 كتابا لقي رواجا، بعنوان «الغلو والصلف»، عن كواليس التضليل والترويج الدعائي للحرب على العراق. ماذا كان عنوان الفصل الختامي للكتاب؟… «لا ندم»! أي أن الصحافيين وثقا للتاريخ أن العصابة بأكملها: بوش، وديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وبول وولفويتز، وكوندليزا رايس التي تغزل بها القذافي، وجورج تنت، ودغلس فيث، وكارل روف، الخ. لم يندموا على شيء ولم يراجعوا مواقفهم ولم يمتحنوها على محك الوقائع. بل إنهم ظلوا، رغم سوء الأخبار القادمة من العراق، يناطحون الحقيقة ويكررون المحفوظة ذاتها: قرار الحرب صائب، أما البقية (بما في ذلك أسلحة الدمار التي لا وجود لها) فمجرد تفاصيل.
كاتب تونسي
عاشت ايدك
مقال رائع…..في الصميم