ما يحدث في الجامعة الأمريكية هذه الأيام يمثل في الجوهر ثورة غير مسبوقة ستصير في القريب العاجل من دروس التاريخ المعاصر، تماما كما كانت من قبل الثورة الطلابية الماركيوزية في فرنسا في أواخر الستينيات، لكن ما يميز هذه التجربة ليس فقط عنفوانها الطلابي، ولا عجز الإدارة الجامعية عن السيطرة على الطلاب، ولا حتى فشل المؤسسات السياسية في»إعادة الأمور إلى نصابها» بفعل التهديد والتذكير بالمترتبات القانونية الناتجة عن «معاداة السامية» ولكن ما يميزها أنها ولأول مرة تجعل من الحدث الخارجي عنوانا لحراك داخلي تَمَردَ على كل الأنساق، ووضع النموذج الأمريكي في مأزق يصعب الخروج منه، بل ووضع الحزب الديمقراطي في ورطة غير مسبوقة في تاريخه، وجعل مفهوم حرية التعبير وممارستها في التجربة الأمريكية يدخل في دائرة الاختبار والمساءلة.
ثمة أربعة مؤشرات قوية على أن الحراك الجامعي الأمريكي بلغ مستوى غاية في الحساسية والتأثير، الأول: أنه مس الجامعات العريقة ذات السمعة والأثر الدولي، فجامعة كولومبيا تعتبر من أكبر الجامعات الأمريكية، وتربطها شراكات واسعة وكبيرة مع عدد من الدول المتقدمة، ويربطها تعاون علمي وثيق مع الكيان الإسرائيلي، ودورها في تطوير العلوم والتكنولوجيات العلمية بلغ أعلى المستويات. والثاني، أن الحراك فيها صار ملهما للجامعات الأخرى، التي وصلها شرر الاحتجاج والاعتصام، والتقدير أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية أعطت إشارة تحذير جدية إلى الإدارة الأمريكية والمؤسسة البرلمانية للتحرك العاجل، قبل أن تصير الحالة عامة في كل الجامعات الأمريكية، لاسيما منها العالمية ذات التأثير الواسع. والثالث، أن سرعة تحرك الإدارة الأمريكية، ومجلس النواب الأمريكي، بمسمى تحصين المجتمع الأمريكي من مخاطر «معاداة السامية» والتهديد الذي تلقاه مسؤول الجامعات الأمريكية بالعزل من المسؤولية في حال عدم القدرة على السيطرة، يبين في الواقع درجة حساسية هذا الحراك.
وأما المؤشر الرابع، فهو التحاق قاعدة مؤثرة من الأساتذة والباحثين من المشهود لهم بالتميز العلمي باعتصامات الطلاب، وانخراطهم في معركة فضح تزييف الوعي التي يقوم بها الإعلام الأمريكي، كل ذلك يشي بأن الحراك الطلابي الأمريكي قد خرج بالفعل عن السيطرة، وأنه لم يعد هناك أي سيناريو فوق الطاولة للتعامل معه سوى المقاربة الأمنية ولازمتها القضائية.
كثيرون يعتبرون أن ما يحدث اليوم في أمريكا من حراك طلابي، هو مظهر من مظاهر ممارسة الحرية في هذا البلد، وأن ذلك لا يشكل أي خطر على بنية الدولة ومؤسساتها، ولا على النموذج الأمريكي، لكن خطأ هؤلاء، أنهم يتصورون أن القضية التي فجرت اعتصامات الطلاب، تشبه القضايا التي لأجلها يتم استنفار جزء من الشارع الأمريكي من أجل التعبير عن احتجاجه، فيجد هؤلاء في أحد الحزبين أو في مؤسسات الإعلام أو في مؤسسات المجتمع المدني من يدعمهم، أو قد يجدون حتى داخل بنية الإدارة الأمريكية من يستمع إلى نبضهم، فيتم التحرك من أجل تسوية المشكلة.
المؤثر في هذا الاحتجاج هو أنه يسائل سلوك الدولة الأمريكية، وسياستها الخارجية، ويقيس أفعالها إلى أقوالها، وتصرفاتها إلى نماذجها القيمية والحقوقية
في الواقع، ليس الأمر كما يتصور هؤلاء، فالاحتجاج اليوم يستهدف رؤية الدولة وتحالفاتها الاستراتيجية، مما لم يكن من قبل أبدا موضوع مناكفة مجتمعية إلا في حدود جد ضيقة، يتم استيعابها ضمن هوامش النموذج الديمقراطي، فالاحتجاج يرفع العنوان ذاته الذي يرفعه النموذج الأمريكي (الدفاع عن حق الإنسان في الحياة والكرامة) ويناضل بنفس الشعار الذي تستثمره الإدارات الأمريكية في تبرير تدخلها أو هيمنتها على بعض الدول (الإبادة الجماعية) نأخذ على ذلك نموذج جنوب السودان، وكيف اتهمت الدولة السودانية بهذه التهمة، وكيف تم تبرير تقسيم السودان باسمها.
المؤثر في هذا الاحتجاج هو أنه يسائل سلوك الدولة الأمريكية، وسياستها الخارجية، ويقيس أفعالها إلى أقوالها، وتصرفاتها إلى نماذجها القيمية والحقوقية، ويتحرى ذكاءً براغماتيا عجيبا حينما يمحض القضية في رفع المعاناة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، ومقاومة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها، دون أن يسقط في فخ ما يسمى أمريكيا بدعم «الحركات الإرهابية».
مؤسسات الاستطلاع الأمريكية، خاصة منها ذات الصيت العالمي تتابع بشكل دقيق تطور نسبة تضامن الشباب الأمريكي مع الشعب الفلسطيني في معاناته، وتسجل انقلابا في المزاج الثقافي الأمريكي، حيث انتصر الإنساني على السياسي في المزاج الأمريكي، فالأمريكيون الشباب في المجمل، حتى وهم يساندون إسرائيل، ويعادون حماس، لم يعد يحركهم هذا السياسي، لأن الكلفة الإنسانية الخطيرة وغير المسبوقة في غزة، أصبحت الأرجح في التقدير، فتحول مزاجهم بسبب ذلك، وصارت السياسة الخارجية الأمريكية تبعا لذلك في دائرة المساءلة، وهي التي لم تكن تشغل بال الأمريكيين ولا تؤثر على مزاجهم الانتخابي.
يقول مركز بيو للدراسات إن 60 في المئة من الشباب الأمريكي التي تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 يساندون الشعب الفلسطيني في معاناته، مقابل 46 في المئة تساند إسرائيل، ويقول أيضا إن 58 في المئة من الأمريكيين يرون أنه يجب السماح بحرية التعبير لمعارضة حق إسرائيل في الوجود.
هذه الأرقام لا تدل فقط على تغير المزاج الأمريكي تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنها تعكس في الجوهر سقوط أطروحة التحكم الثقافي الأمريكي، فالأجيال الجديدة في أمريكا، تبعا لهذه الأرقام، أحدثت اختراقا كبيرا، يصعب ردمه أو تجاوزه، لأن الفئة السنية ما بين 18 و29 هي مستقبل أمريكا والعينة التي تعكس نوع الثقافة والمزاج الذي ستحمله.
المفارقة أن عددا من التحليلات التي بثتها وسائل الإعلام الأمريكية عن الانتخابات التركية، كانت دائما ما تركز على الأجيال ودورها في إنهاء حكم رجب طيب أردوغان، لكنها أبدا لا تستعمل المنطق نفسه عندما يتعلق الأمر بتغير المزاج الأمريكي، وبداية نهاية البروباغاندا التي يصوغها السياسيون عن النموذج الأمريكي الديمقراطي والحقوقي.
صناع القرار السياسي الأمريكي يعرفون أنهم في ورطة جيلية استراتيجية، لكنهم يحاولون الاشتغال على المدى القريب فيشغلون منطق «نتخلص من المشكلة اليوم وبعدها لكل حادث حديث» لكنهم في هذه السياسة نفسها، لا يجدون غير المقاربة الأمنية، التي تستعمل الأوراق التي لأجلها يتم الانتفاض اليوم، فالجيل الجديد يحتج على الدعم الأمريكي الذي يوجه لإسرائيل لقتل الفلسطينيين وإبادتهم، ويستعلمون الصور والفيويدوهات التي لم يعد أحد قادرا على حجبها، لكن الساسة الأمريكان، في سبيل وقف هذا الاحتجاج الشرعي الأخلاقي، يستعملون حجة «معاداة السامية» وكأنهم بذلك، يريدون أن يقنعوا هذا الجيل الجديد من الشباب، بأن أمن إسرائيل يبرر الجرائم التي تشربوا في نموذجهم القيمي والتربوي أنها جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية لا يمكن القبول بها أو السكوت عنها.
العقلاء من صناع القرار الأمريكي، يدركون أن هذه المقاربة بئيسة، ولا يمكن لها إلا أن تشعل بقية الجامعات، فيندلع ربيع طلابي جامعي أمريكي عارم، ينعكس على كل الأسر الأمريكية، ويمكن أن يحدث انقلابا سياسيا عنيفا سيطبع الانتخابات المقبلة بطابع لن يخطئ قراءته السياسيون في السنوات اللاحقة، ولذلك، ترى بعضهم يضغط بكل ما له من قوة من أجل أن تنتهي الحرب وتنجح صفقة التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
في الواقع هذا هو السيناريو العقلاني، فأسباب الربيع الطلابي الجامعي الأمريكي توجد في الفظائع الصهيونية والدعم الأمريكي، والحل لا يمكن أن يأتي إلا من خلال إيقافها، وألا يرى الشباب الأمريكي المال الذي يدفعه الأمريكيون من جيوبهم في شكل ضرائب، يتجه لدعم إبادة جماعية نشأوا على رفضها وإدانتها، فكيف يسوغ لهم قبولها اليوم، وكيف يتم منع حريتهم في التعبير من الاحتجاج إليها باستعمال تهمة معاداة السامية؟
كاتب وباحث مغربي