كانت أمسية مفعمة بمجموعة من الأحاسيس المتناقضة؛ اختلطت فيها روعة شمس استوائية متوارية ـ بشيء من التكاسل ـ خلف تلال المدينة ذات التضاريس المهيبة، برهبة لياليها المسهدة ومخاوفها الكثر. الكل، هنا، يخطو ببطء متعمد، كأسرى في محضر طبيعة خلابة تقتادهم أصفاد المخاوف نحو مقار، ربما، هي أكثر خطورة من هذه الشوارع الموحشة.
يقف بجانب نافذة فندقه المتواضع، وفي عينيه نظرة تاهت بين الدهشة والحسرة، وكأنه يحاول استيعاب تفاصيل هذه المدينة القلقة باستنشاق نسماتها المسائية. سرح بباله لسويعات، ثم عاد ليهز رأسه بأسف، وهو يتساءل «أي لعنة أصابت هذه المدينة الجميلة ليسكنها الهلع وليرتع في شوارعها الموت؟ أي لعنة هذه؟».
الشمس تكاد تختفي كليا وراء قمم التلال المحيطة بالمدينة، بَيدَ أن أشعتها الذهبية ما زالت تتخلل الفراغ الناجم من تباين ارتفاعات تلكم التلال، لتصطدم بسطوح العقارات الشاهقة التي تبدو مبعثرة بطريقة محيرة في مظهر أقرب لفوضى معمارية مفتعلة.
ما بين تلك الأضواء المنحسرة، أطلت من على بعد؛ تخطو بلطف وثبات، كأنها تداعب الأرض بقدميها بحثا عن موضع القلب بين ثناياها المترهلة. رياح ثملة تتلاعب بوشاحها الذي التف، في لحظتها، بالجزء الأعلى من وجهها كاشفا ابتسامة ناصعة البياض. شفتان مكتظتان، ترتجفان بخجل، ربما من رهبة الترقب أو من أوَار اللقاء المحتمل.
كانت هي، تماما كما الأساطير، عفوية للغاية، خلوقة بفطرتها، مزدرية بعض الشيء كأنها على يقين من أنها أعجوبة الكون، ودليل عظمته الفائقة. ترنحَ بعض الشيء في وقفته، فأسند نفسه إلى نافذة الغرفة، ثم وضع يده على صدره؛ ليكبح جماح قلبه الذي أصبح ينبض بقوة طربا، أو ربما رهبة؛ فكيف لا، وها هي (أمفيتريت) تعود من غياهب التاريخ، لتخرج من بحر الجبل متوسدة شَفَق الغروب، لتعانق هذه الأمسية القدرية!
كانت أمسية قدرية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فها هي العوالم تلتقي، والأسطورة تتجسد، والآلهة تقف على عتبة التاريخ لتستكشف آدميتها ولتطلق لأنوثتها الحبيسة العنان. بضعة أقدام وسويعات من التوجس والانتظار تفصل بينهما؛ فهو، على الجانب الآخر من هذه اللحظة المفصلية، يقف سكيرا مترنحا فرجولته حمم بركانية على وشك الانفجار، وقلبه مرتع لخواطر متناحرة. ثمة سؤال ظل يتردد في رأسه بقوة، قاطعا حبل أفكاره بين الفينة والأخرى. مَن أنتَ؟
استوقفه هذا التساؤل بحدة، ربما لأنه يعلم أن في داخله رجلين. أحدهما رجل عرفته هذه المدينة بفظاظته، مدفوعا بنزواته، شغوفا بالأرداف، ثقيل الجيب والظل. أما الرجل الآخر، فهو الأبنوسي في اسمى تجلياته، عطوف على (حواء) بطبعه، غيور على كرامتها؛ يرى ينبوع الحياة في أمومتها، وعفة العلاقات في أخوتها، وقدسية المجتمع في حرمتها. نعم، ذلك الكائن الذي يكاد أن يحّول، بتعمد، إلى أرشيف هذه المدينة.
مَن أنت؟
تكرر التساؤل هذه المرة وهو يقف أمام مرآة في منتصف غرفته التي كان قد أعدها بعناية لتكون محفلا لتلاقي الأرواح وبقعةَ لعزف سيمفونية الحياة بكل معانيها الخالدة. تفحص ملامح وجهه في المرآة بتمعن شديد، وكأنه يحاول سبر أغواره بحثا عمن سيكون في هذه اللحظة المفصلية. انتفض من تفكيره العميق إثر رنين هاتفه الجوال، استقبل المكالمة بلهفة..
«أنا هنا»
كانت هي،
تخبره بوصولها..
أنهى المكالمة على عجل، ثم ألقى نظرة على نفسه في المرآة مرة أخرى، ثم غادر غرفته بسرعة، وكأنه يهرب من جحيم رجل حاول انتحال دواخله. التقى بها في بهو الفندق، تبادلا تحية حارة، ثم استأذنها في أن تتبعه إلى مطعم الفندق الذي يعج بالرواد. جلس في المقعد المقابل لها، تبادلا أحاديث طويلة مفعة بالإنسانية، ضحكا من أعماق نفسيهما، ثم استودعها، على مضض، بقبلة حنونة على جبهتها، فهو يعلم أن الآلهة نفسها لن تسلم من المطبات الليلية لهذه المدينة. ظل واقفا في موقعه يتابع رحيلها إلى أن ابتلعها الظلام، ثم عاد إلى غرفته في غبطة من أمر نفسه، منتشيا بانتصارات الروح على رغبات الجسد، فكيف لا فهو لم يعد من تعرفه هذه المدينة، بل سينام في هيئته الجديدة. هيئة الرجل الآخر…
أصفاد: قيود أو سلاسل، عبارة عن حلقات حديدية لتقييد كاحل أو رسغ السجين..
الأوار: شدة الحر ولفح النار ووهجها وعطشها..
أمفيتريت: آلهة البحر في الميثولوجيا الإغريقية القديمة..
الشَفَق: الضوء الأحمر الذي يظهر بعد غروب الشمس..
٭ كاتب سوداني