عندما يقطع رجل من «داعش» شجرة معمّرة يتبرّك أهل ناحية بها، مطبّقاً بذلك تعاليم الإمام محمد بن عبد الوهاب في «باب من تبرّك بشجرة أو حجر ونوحهما»، فإنّه يدرك جيّداً أنّ لا ذنب للشجرة المقطوعة في ما نسبه اليها أهل الزيغ والضلالة من جلب منفعة ودفع مكروه.
هو يستند بلا شكّ الى الأثر، عن قطع خالد بن الوليد بأمر الرسول شجرة العزى بين مكة والطائف، وقطع عمر بن الخطاب شجرة الحديبية التي تمت تحتها بيعة الرضوان. في الحالة الأولى، قُطعت شجرة كانت قريش تعظّمها منذ زمن، وفي الحالة الثانية قُطعت الشجرة «وقائياً» ما إن بدأت الناس تنتابها.
عندما يقطع رجل من «داعش» شجرة يجري التبرّك بها فإنّه لا يستند إلى الأثر و»كتاب التوحيد» فقط، بل هو يزاول نشاطاً «تنويريّاً» ضدّ الخرافة والشعوذة وفضاء التعاويذ والتمائم.
هو لا يقطع الشجرة لأنّها مسكونة ومسحورة، بل يقطعها لأن الناس تظنّ أنّ بالتواصل معها، والتبرّك بها، يمكنهم تحصيل واسطة غيبية معيّنة لأغراض عملية بحتة، كالإنجاب والشفاء وردّ سوء الطالع. ما يقوم به إذاً هو سدّ لمنفذ غير شرعيّ الى عالم الغيب، منفذ لم يأذن الشرع به. إقامة الحدود لا تنفصل عند هذا الرجل من داعش عن «ترسيم الحدود»، بين الغيب والشهود، وبين الإنس والجنّ.
ليست عنده هذه الشجرة التي يهمّ بقطعها هي الشرّ في ذاته، أو بيتاً للشرّ، بل هي شجرة مثل غيرها من الأشجار، لذا فهو عندما يقطعها ينفّذ ذلك بكل سكينة، ولا يرأف بوسواس اذا انتابه، ويعتقد أنّ «الموقف العقلاني» المنتظر الاستتابة اليه عند أهل تلك الناحية التي كان يكثر فيها التبرّك بهذه الشجرة هو دخول السكينة الى قلبهم بعد قطع هذه الشجرة.
لقد جعل أهل تلك الناحية من هذه الشجرة «مكاناً بدعياً»، أي سوقاً لـ»اقتصاد خوفهم المشتت»، وهو يريد اقفال هذه التجارة، واحلال أخرى، حيث يصير استجماع كل الخوف في «توحيد العبودية» لله وحده مجلباً للسكينة.
الرجل من «داعش» عندما يقطع الشجرة التي يجري التبرّك بها إنّما ينشد السكينة.
لا ذنب للشجرة المقطوعة بحدّ ذاتها، بل يمكن الاستطراد في «خَيلة منطقية» بأنّ التسبّب بقطعها هو إثمّ إضافيّ يتحمّل مسؤوليته من جعل من هذه الشجرة «ذات أنواط»، وأناط بها ما يتجاوز وظيفتها في الطبيعة كشجرة.
في هذا يؤدّي الرجل من داعش الوظيفة التحديثية بامتياز، وظيفة الدفع باتجاه «فكّ سحر العالم». الافتراض هو التالي: لو أن الناس في تلك الناحية تتعامل مع هذه الشجرة بنفس وضعيّ محض، وبلامبالاة عاطفية، ومن دون التركيز عليها، لما كان ثمة ما يدعو كي يهمّ هو بالتركيز عليها، وقطعها.
لكن هنا يقع ما ليس بالحسبان عند هذا الرجل من داعش. تركيزه هذا على الشجرة يخون نفسه بنفسه. صحيح أنّه ينحو، قصدياً، لتحطيم الدائرة السحرية المنسوجة حول الشجرة، وصحيح أنّه يدرك تماماً أنه لا يقطعها لأنها مسكونة أو ممسوسة، بل لأنّ الناس تريدها كذلك، وهو يريد أن يري الناس بأنها غير ذلك، لكن في المحصّلة هو يقعُ تحت طائلة «الإجهاد»: يتعامل مع أضغاث معتقدات اندثرت على أنها ما زالت قائمة بالفعل. باختصار شديد مشكلته الأساسية مع الفولكلور.
الرجل من داعش انسان عاقل وهو يدرك تماماً أن التبرّك بشجرة ولو في أقصى ناحية ريفية من العراق أو سوريا في عصرنا هذا ليس كالتبرّك بشجرة قبل مئة عام أو ألف عام، وأنّ صنماً بابلياً أو أشورياً أودع في متحف ليس كصنم تقدّم له الأضاحي، وأنّ جماعات كالأيزيديين قد تكون حافظت على هويتها الثقافية ومعتقداتها على امتداد القرون، لكن تراثها الديني الثقافي هذا ليس حيّاً بالكامل، بل هو متأرجح بين حياة وموت. لأجل ذلك يبدو الرجل من داعش وهو يقطع شجرة، أو يحطّم منحوتة، أو يدثر مقاماً، كما لو أنّ لسان حاله يقول: انّ انهزام الشِرك الأزليّ وتقهقره الى منزلة «فولكلور» و»أركيولوجيا» هو تحايل على التوحيد الحقيقي. المعادلة الداعشية التحديثية هي اذاً: الفولكلور تحايلٌ على الله. «دولة الاسلام» ازهاق لهذا التحايل، وفضح للفولكلور على أنّه خبيث وحيوي، على أنّه ليس بفولكلور.
التبرّك بالشجرة «فولكلور» فقط من الناحية الظاهرية المخادعة اذاً، وكذلك الزيارة «الأركيولوجية» لآثار بابلية أو أشورية. عندما يتصدّى الرجل من داعش لهذا التبرّك أو لهذه الزيارة فلأنّه يقتفي المعالم الأولى للبنية الشركية التي يسبح بها العالم.
لكن ما يحصل عندها، وعلى هامش الفاتورة الاجرامية والدموية الخطيرة، هو أنّ هذا الرجل لن ينجح في احياء أثر قطع شجرة التبرّك الا على نحو فولكلوري أيضاً، وكذلك احيائه لقانون الجزية، واحيائه لخلافة معدومة «الخطبة والسِكّة». الكابوس الذي يواجهه الداعشي هو رؤية الاسلام وقد استحال فولكلوراً. الخبث الذي يهمّ بفضحه، بالقطع والهدم والذبح، هو الشرك المتخفي تحت ظلال «الفولكلور» و«الأركيولوجيا» قبل أن يتخفى تحت ظلال «الوطنية والقومية» و«الديموقراطية». النتيجة: هو أنّه، في مقاومته لعملية تحويل الإسلام الى فولكلور، وفي مقاومته لعملية تستّر الشِرك بالتهوين الفولكلوري لأحواله، انّما يتقلّد «رُهاب الإسلام» نفسه – أو «الاسلاموفوبيا» – على أنّه عين الإسلام.
الكابوس بالنسبة الى «داعش» يبدأ من أنّ الناس عندما تتبرّك بالشجرة في عصرنا في أي ناحية من العراق أو سوريا، قد تفعل ذلك، انما لا تفعله بشكل «جدّي»، وانما بشكل مائع، غامض، ناعس، مبهم، تقريبي، نوستالجي. «ليت الناس كانت تتبرّك بهذه الشجرة بالفعل» يكاد الرجل من «داعش» يقول، عندما يهمّ بقطع الشجرة. ما يحصل هو ان «اثم الفولكلور» يصيبه حين يقطع الشجرة. أنهار من دماء لن تزيل هذا الإثم. ستجعله أكبر وأكبر وأكبر.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء صدق الله العظيم
أي عبادة لغير الله هو شرك
يقول الرسول الكريم اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله
ولا حول ولا قوة الا بالله