الرسامة العراقية وجدان الماجد توقظ الدهشة في عيون البغداديين على جدرانٍ انهكتها الحروب وطال ملامحها النسيان

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
1

تتنامى داخل الفنان المجتهد عناصر التمرد على المقولات والقواعد المتداولة، وترتفع وتائر تمرده إذا ما وجد الأدوات المتاحة أمامه تبدو عقيمة، ولم تعد تستجب لزخم ما يتشكل في ذاته من تطلعاته فنية، ومثل هذا النموذج وهم عادة نخبة قليلة من بين الأعداد الكثيرة التي تشتغل في الحقول الفنية، دائما ما يسعى إلى التعبير في نتاجه عن الأسئلة التي ينشغل بها، والتحولات التي تحدث في سفر مشروعه بإجابات فنية ملموسة، وغالبا ما تدفعه مشاعر التوتر والانشداد الداخلي وهو في حالة تأمل وتنقيب في محطات مهمة من تجربته، إلى ان يقف مع نفسه في لحظات كثيرة من مساره، منزويا عن الآخرين ومصغيا إلى صوته الداخلي، طارحا أسئلة، وواضعا نصب عينيه من خلالها ضرورة التوصل إلى لحظة افتراق عما هو كائن في خصوصية تجربته من محددات، وما يفرضه عليه المشهد الفني العام من أطر جمالية بات يجدها تحد من جموحه.
إن الفنان الذي تتحرك في داخله جمرةُ تجاوزِ ما أنجزه شخصيا وما أنجزه الآخرون من أساليب وتقنيات، يحاول دائما ان يفتح في تجربته أفقا فنيا يتآلف مع تطلعاته، ويأتي ذلك من وحي حالة التأمل لذاته وللعالم الذي يتفاعل معه، وهذه الممارسة جزء حيوي من طقوسه وعاداته الملتصقة بشخصيته، وعادة ما تكون عملية اشتغاله على ما سيكون وما سيتشكل في تجربته مرتبطة بارهاصات وتهويمات حول فضاء جديد، لن تتضح معالمه إلاَّ بعد ان يتوغل عميقا في ممارسة عملية التجريب ويقطع في تحدياتها شوطا كبيرا.
وفي مغامرته القائمة على فكرة التجاوز، غالبا ما يستند المبدع في مشغله على منهج يقدس فيه فكرة البناء ثم الهدم ثم البناء، وهكذا تستمر العملية على هذا المنوال، لتنتهي التجربة عند عتبة النضج في نهاية المطاف والأمر المهم في محصلتها النهائية ان تحقق تفاعلا مع المتلقين وتحرك فيهم الدوافع لطرح أسئلة من وحي عملية التلقي.
بناء على هذا الفهم للعملية الإبداعية حاولت الرسامة العراقية وجدان الماجد، ان تتمرد على الحالة السائدة في تقاليد الرسم العراقي، بعد ان وجدت صالات العرض التقليدية عاجزة عن إشباع نزعتها في تأكيد حضورها الفني، وفق ما لديها من تطلعات ومشاريع، تتجاوز في آفاقها ما يضعه المشهد العام من مساحة محدودة للعمل، هذا إضافة إلى انها وجدت اللوحة بمفهومها التقليدي المتداول في الصالات، لن تكون مناسبة لأن تستجيب لبعض هواجسها الفنية الجريئة، والتي تحتاج إلى أفكار جديدة في مرحلة التطبيق تخرج بها عما هو سائد، لهذا وجدت نفسها تبحث عن ملاذات أخرى تسرد من خلالها ما يتجلى في داخلها من تصورات فنية.
وجدان الماجد تحمل شهادة ماجستير في الرسم، وتعمل أستاذة جامعية في كلية الفنون الجميلة، وأثناء رحلتها اليومية من البيت إلى الكلية، سيكون من الطبيعي ان مزاجها سيتعكر وتولد في داخلها مشاعر وأحاسيس ترفض ما تراه عيناها وهي تتطلع إلى جدران البيوت والعمارات وقد طالها الخراب والنسيان والعبث، بفعل ما مرَّ على بغداد من محن. فبالإضافة إلى الحروب يأتي التغير المناخي الذي أحالها إلى أشبه ما تكون بصحراء قاحلة من بعد ان تم تجريف بساتين شاسعة وأعداد كبيرة من أشجار النخيل كانت تحيطها من جميع جهاتها، لتحل محلها مشاريع عقارية استثمارية يقف خلفها ساسة وزعماء أحزاب متنفذون في السلطة، حتى ان الغبار بات ضيفا ثقيلا ودائميا عليها، فأحال نظارتها إلى شحوب، إضافة إلى التوسع العمراني الذي مال إلى العشوائية في الكثير من تفاصيله، وبذلك فقدت بغداد سرديتها الجميلة التي ظلت عالقة في ذاكرة أهلها وعشاقها، فالتشويه البصري قد امتدت أصابعه الخشنة لكل جميل فيها.

إعادة الدهشة إلى المارَّة

تحت سلطة هذا المناخ الذي بدأ يدفع بتغضنات الشيخوخة إلى ملامح بغداد الجميلة، بدأت الماجد تفكر بما يمكن عمله لإعادة الدهشة إلى سكانها، واختارت ان ترسم أربع جداريات على أربع ركائز حجرية ضخمة تقف شاخصة مقابل مبنى كلية الفنون الجملية في منطقة الوزيرية، وهي آخر ما تبقى من أثر لسكة قطار قديم أنشئت منذ العهد الملكي في خمسينات القرن الماضي وكانت عربات القطار تسير على جسر الصرافية قاطعة بغداد من منتصفها، إلى ان تم إخراجها من الخدمة بعد العام 2003.
الماجد وبعد ان رسمت ضمن تفاصيل الجداريات الأربع صور اثنين من الرسامين العراقيين كانا قد غادرا الحياة خلال الأعوام القليلة الماضية، وسبق لها ان تتلمذت على أيديهما في الكلية، وهما ماهود أحمد وبلاسم محمد، انتبهت إلى ان إيقاع الحياة في المحيط الذي ارتفعت فيه الجداريات بدت عليه علامات التغير، وبدا تأثيرها الجمالي لافتا لنظر المارة وبمختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، خاصة وان أسئلة الجمهور أخذت تُطرح من وحي عملية التلقي، مستسفرة عن الشخصيات التي تتصدر التركيبة التي تأسست عليها بنائية الجداريات، وهذا ما منح عملها فرصة ان تتقلص المسافة مع المتلقين، وتزداد قوة العلاقة بين العمل الفني والجمهور، وهذا أقصى ما يطمح إليه أي فنان. وعلى إثر ذلك تولدت في رأسها فكرة ان تستمر في هذا المشروع وان يصل إلى أكثر الأماكن حيوية ونبضا في العاصمة، وكان هدفها من ذلك ان تعيد النبض لفضاءآتها التي تنتمي إليها بحواسها ووجدانها، ولهذا ما ان جاءتها الدعوة من أمانة العاصمة للبدء في عمل جداريات كبيرة في عدد من مناطق بغداد بعد ان لاقت تجربتها صدى واهتماما كبيرا من قبل الصحافة وعموم الناس، وافقت على الفور ولم تنتظر وقتا طويلا حتى بدأت عملية التنفيذ.

شخصيات أثْرَت الأزمنة الماضية

الماجد كانت تسعى من خلال مشروعها ان تتعانق تقنيات فن الغرافيتي مع الحكايات التي ما زالت عالقة في ذاكرة العراقيين عن أهم رموز بغداد والعراق، من فنانين وشعراء ومهندسين ومعماريين ولغويين ومفكرين، لتمنح بغداد ما تستحقه من لمسات جميلة، فاختارت جدرانا وواجهات لبيوت وعمارات موزعة في أماكن مختلفة، وبدأت تحرض عليها ذاكرتها الفنية، فنسجت على سطوحها الخشنة نصوصا بصرية جمعت فيها تلك الشخوص، بما فرضته رمزيتها من علامات بارزة في التاريخ العراقي المعاصر، ولتخفق نبضات أرواحها من جديد وهي تطل على المارة كل يوم، بينما هم يتطلعون إليها أثناء مرورهم بها، ولتذكِّرهم بما أنجزته من أعمال وآثار فنية وفكرية كانت سببا في ثراء وخصوبة الأزمنة التي عاشت فيها وما زال العراقيون يتغنون بها ويتحسرون عليها.
لابد لمن يتصدى لمثل هذا المشروع ان يكون على قدر عال من الوعي والإلمام بذاكرة بغداد الثقافية المعاصرة، إضافة إلى ارتفاع مستواه التقني في الرسم، حتى يتمكن من تقديم جوهر الشخصيات التي كان لها الأثر الواضح في الوجدان والتاريخ العراقي، ولكي تنال ما تستحقه من الحضور الفني المؤثر، وبما يعيد الضوء إلى جدران وواجهات المدينة المنهكة، وبلا شك فإن هذه المواصفات قد توفرت في شخصية الماجد.
من أبرز الشخصيات التي افتتحت بها هذا المشروع الذي وصل إلى أكثر من 16 جدارية، العلامة علي الوردي، والمعمارية زها حديد والشاعر الملا عبود الكرخي ومظفر النواب وناظم الغزالي والجواهري والشاعر الكردي عبد الله كوران، ولم يقتصر الأمر على هذه الشخصيات العراقية بل تعداها إلى شخصيات تنتمي إلى جنسيات أجنبية مثل الأم تيريزا وبابلو بيكاسو وآخرين.

تمرد على القبح

كان على الماجد ان تتمرد على القوالب النمطية في التعامل مع فن الغرافيتي بأن تمنح نصوصها البصرية شحنة وجدانية، خاصة وان الرموز الثقافية فيها تمثل مركزا محوريا في بناء الجداريات، وربما في هذه المسألة قد تفترق الماجدي مع واقع فن الغرافيتي في العالم بدرجة ما، لان المتعارف عليه في أغلب البلدان ان يكون الغرافيتي بمثابة وسيلة فنية مباشرة للتعبير عن الاحتجاج إزاء ما يشعر به الإنسان ضد السلطات المجتمعية والسياسية، إضافة إلى القيمة الجمالية التي يشتغل عليها الفنانون، بمعنى ان مشروع وجدان الماجد الغرافيتي لم يأت من باب التمرد والاحتجاج السياسي، انما جاء تمردا جماليا على القبح الذي اندفع بشراسة مخيفة إلى كل مظاهر الحياة المدنية في العاصمة بغداد خلال العقود الأخيرة.
وبعيدا عن فساد الأوضاع السياسية في العراق، من الممكن ان يغادر الفنانون العراقيون وخاصة الشباب الطرق التقليدية في مخاطبة المتلقين، ويعملوا على الاتيان بأفكار جديدة من وحي هذا المشروع، وسبق لهم ان قدموا تجارب مهمة خلال الفترة التي تصاعدت فيها اعتصامات شباب تشرين في ساحة التحرير خلال العام 2019 ولكنها بقيت محصورة في نطاق المساحة التي كانوا يعتصمون فيها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Khalid jodi:

    حقيقة عمل رائع يتوج فكرة عظيمة… في زحمة التغرب واستبدال الشخصيات العراقية المؤثرة بشخصيات خارجية.. تشرق علينا ايقونه عراقية تفرض إيقاع جديد لأفكار إبداعية عراقية وشخصيات رسمت تراث بغدادي وعراقي اتسم بالإبداع والرقي… عاشت اناملك وأفكار وروحك الوطنية

إشترك في قائمتنا البريدية