تتلخص تجربة الرسام العراقي الكردي ديلان عابدين، بما يدوَّنه من علاقات متنافرة بين عناصر القطعة الفنية التي ينتجها، وغالبا ما يحرص على ان يُفاجئ المتلقي بها حيثما يكون بدون ان ينتظر مجيئه. وهذا ما أكَّده في تجربته الأخيرة التي أقدم على إنجازها في الهواء الطلق بمدينة كركوك شمال العراق، معتمدا على مفردة واحدة حرص على تكرارها، تمثلت في البرميل المعدني الذي عادة ما يستخدم في تعبئته بالنفط، أو النفايات.
جوانب مهمة في سياق تجربة ديلان يتجلى حيزها البنائي في أنها تخلق اشتباكا مركبا ومتمردا في آن، بين أشكال متنوعة من فنون الرسم والنحت وبين الواقع والتجربة الفنية، خاصة وأنها لا تراهن على تأسيس علاقة شائعة مع الأشياء التي نتعامل معها في الحياة اليومية، ودائما ما تحفزنا على أن ننفلت من سياق ردود أفعالنا الجمعية، وأن نحتفي بالحس الفردي في التلقي، ولربما تجاذب التجربة بين المرسل والمتلقي في أعماله أقرب ما تكون إلى الصدمة، وهذا ما لا يتحقق في الأعمال الفنية التقليدية.
وعمد الفنان على إطلاق العنان لخياله في إعادة تنظيم مكوّنات جاهزة ومستهلكة في البيئة لا تملك في بعدها الوظيفي أي تعددية في التأويل، ولم تعد ذات فائدة نفعية للإنسان، فكان مصيرها ان تؤول إلى مكب النفايات أو أن تصبح وعاءً للنفايات مثل البراميل المعدنية التي استخدمها عابدين، إلا أن الفنان يرى فيها وظائف أخرى لا نراها، وإذا ما أعاد صياغة علاقتها التعبيرية مع الزمن وفقا لنظام شكلي قائم على منظومة علاقات تفاعلية في بنيتها الفنية، فإنه سيخرجها إلى حيز من القصديات الواعية، لتظهر بالتالي في مستوى من التكوين الفني المركب، المرتبط بعلاقة تبادلية مع الفضاء، وما أقدم عليه الفنان عابدين يندرج وفق هذا المنظور من الفهم للأشياء المستهلكة في دلالتها وفي صلاحيتها الوظيفية، فقد خرج بها إلى منطقة اللامألوف، وكسر دائرتها الأيقونية، حسب ما أحدثه فيها من ثقوب وتحويرات، ومساحات لونية، ومن ثم أطلقها في فضاءات متنوعة، أثمرت عن شحنة من الاستثارة البصرية، ما تنفك ان تفضي إلى تتبع دلالالتها.
غائيات لا محدودة
تجربة الفنان ديلان عابدين في تعامله مع مفردة البراميل المعدنية التي عادة ما يتم استعمالها لأغراض مختلفة في حياتنا اليومية، تأتي أولا في إطار تأكيده على البعد الجمالي، باستحالاتها الغائية اللامحدودة، وبزمنها المتحرك حسب طبيعة الخلفية التي حرص على ان يؤطر بها المفردة الواقعية، وثانيا بما يحمله هذا البعد من خطاب فني يتقاطع في آليات اشتغاله وتقنياته مع ما هو ظاهري في المعطيات الواقعية لدلالة المفردة في زمنها الثابت، في مقابل تواصله مع ما هو مستتر وقابل للتأويل.
والعلامة البيئية التي يستلها عابدين من المخلفات، يُطلق لها عنان الحرية المشروطة، داخل إطار التجربة الفنية حتى تتموضع بدلالالتها خارج ما هو محفوظ في الذاكرة الجمعية من مدلولات محدَّدة سلفا، بمعنى تفريغها من نمطية استمرار توصيفها الواقعي، والأخذ بها إلى لحظة زمنية يعيد من خلالها فحصها وقطع صلتها العلائقية مع القراءات المسبقة التي تكرس رمزيتها الأيقونية، وشحنها بشفرات تنعكس من خلالها العلاقة مع رمزية المكان، بمعانيه المختلفة الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية والنفسية والقيمية، وما يزخر به المكان من مفردات تشير إليه وترتبط به، ولن تستغرق عين الملتقي وقتا طويلا في التقاط غرابة واغتراب العلاقة بين العمل الفني والفضاء المحيط، وما يمكن أن تحمله شفرات هذه العلاقة من تناقضات وصراعات تتعدى الأشكال والألوان إلى نوع من الإسقاط الفكري الذي يتناغم مع سخونة الواقع سياسيا واجتماعيا.
هذه الملامسة النوعية للأشياء، هي رغبة قوية لدى الفنان ديلان في تأكيد افتراضات هذه العلاقة التركيبية التي طرحها في عمله مع أشياء منتهية الصلاحية، وأحالها إلى زمن جديد بوصفها مفردة ضمن منظومة علاقات جديدة منفصلة عن طبيعتها النفعية الواقعية التي صنعت لأجلها.
تجريب في الخامات
تجارب الرسام عابدين لا تخرج عن المغامرة، ودائما ما تتأسس على إنتاج أشكال وتخيلات في مسار من التجريب على خامات أبعد من أن تستعمل في مشغل الرسم، وهذا ما يفضي بنا إلى طرح هذا التساؤل: لماذا ينحاز إلى مثل هذه التجارب، خاصة وانها تقترب في تقنياتها وقصدياتها الجمالية والفكرية من نقطة يكون فيها في لحظة مواجهة استفزازية لذائقة المتلقي؟
الإجابة يمكن الوصول إليها عندما نتأمل تجربته ميدانيا، وما تتركه من انطباعات لدى المتلقين الذين لا تربطهم صلة بجمهور صالات الفن التشكيلي، لأنهم مشغولون بهمومهم الحياتية، ولا وقت لديهم لتأمل الأعمال الفنية والبحث عما تحمله من أساليب وأفكار، من هنا نصل إلى فهم نزعته الإنسانية وتطلعاته الفنية وما يسعى إليه بفاعليته التجريبية التي يخوضها في بيئات اجتماعية خام لم تستثمر من قبل، وربما هي أبعد ما تكون كمكان لإقامة معرض فني، إلا أن ديلان وجد فيها شكلا تجريبيا قادرا على استفزاز المشهد الفني وتحفيزه للخروج مما هو معلوم ومتعارف عليه إلى ما يبدو غامضا ومربكا ومجهولا في التجربة الفنية، فاختار منطقة تبعد أمتارا عن آبار النفط في مدينة كركوك لتنتصب أمامها مفردات عمله بغرائبيتها سواء من حيث المادة المستعملة “البراميل المعدنية” وما أحدثه عليها من رؤية لونية توزعت على مساحات مختلفة وبألوان قوية في درجة حرارتها، أو في اختياره تقاطع الطرقات بين الأحياء السكنية التي تلتقي فيها بدايات ونهايات الأزقة، حيث سيتفاجأ المارة من السكان بشواخص فنية، تشكلت من مفردات يعرفونها جيدا، لكنها لم تعد على تلك الصورة التي ألفوها، عندما تحولت إلى أعمال فنية تجردت من مرجعيتها الوظيفية التي صنعت من أجلها، بما أنجزه الفنان عليها من تفاصيل، جاءت على شكل ثقوب وألوان وتخطيطات، أعادت صياغتها بمفاهيم جديدة، وهذا ما يستدعي من الجمهور المتجمهر حولها ان يتأملها لأجل فهمها، ولعل أبرز ما يدفعه إلى الانجذاب ناحيتها طبيعة العلاقات الفنية التي تداولها الفنان على سطحها، وما يبدو عليها من وحدة وانسجام في ألوانها وأشكالها وما تشير اليه من أفكار، فلا يجد الطفل نفسه إلاَّ وهو يجلس أمامها في محاولة منه لإيجاد تفسير لما يراه من أشكال وألوان أحالت برميل النفايات إلى بنية فنية جمالية، متجاهلا موعدا قد ضربه مع أترابه حتى يلعب معهم لعبة كرة القدم.
والشكل الخارجي الذي استحالت إليه المفردات القديمة، بدت مثّل بؤرة التقاء جاذبة للمارة في الفضاء العام، وعنصرا فنيا حمل قدرا كبيرا من المنبهات التي استثارت حواس الجمهور، ودفعته إلى ان يتوقف عن الاستمرار في السير لاكتشاف ما تفاجأ به من صياغات بصرية، ولابد ان يسأل بالتالي عن سر علاقتها الجديدة مع الفضاء القديم المحيط بها.
على المتلقي أن يجد المعنى في كثافة السياق الاستعاري الذي ترتبط به أعمال ديلان عابدين، وان أي محاولة للوصول إلى كشف أسرار العلاقة الاغترابية بين المفردات داخل العمل نفسه وبين الفضاء المحيط به ستفضي إلى مدى الارتباط الوثيق مع التجربة، بغض النظر عما إذا توصل المتلقي إلى معنى محدد في رحلة تاملاته أو لم يتوصل، وهذا جوهر ما تشترك فيه فنون الحداثة وما بعد الحداثة، وإن اختلفتا في رؤيتهما لمفهوم الشكل.
في هذا المنحى التركيبي بجنوحه الاستعاري من مسيرته الفنية، فإن الفنان عابدين لا ينساق إلى استنساخ وظيفة المفردات اللغة الواقعية في مشغله الفني عندما نجده مصرا على التعامل معها، وعلى النقيض من ذلك نجد ما يحدث في استخداماته لها، نزوعا إلى تطويعها وفقا لمعجمٍ تفرضه رؤيته الذاتية، ومن خلال ذلك يحيلها إلى قواعد جديدة لا تتفق مع قواعد لغة الواقع، فلاغرابة عندما ينتج لنا بفعل هذا الاشتغال الانزياحي دلالات جديدة، ولكن ليس من السهولة الإمساك بها، على الرغم من انها قد استندت على خامات متداولة، وهو بذلك يتقصد إحداث حالةٍ من الفوضى البَصرية للوهلة الأولى، مصدرها تناقض العلاقة بين الفضاء والعمل الفني، بالتالي هذا سيؤدي إلى حالة إرباك ذهني لدى المتلقي، تحمل في داخلها احساسا بالدهشة ممزوجا بمتعة غامضة، من بعد ان زجَّه في عالم لا ينتمي إلى ما هو واقعي، مع انه يتشكل من مفرداته اليومية، وهنا تنفرد مقولات خطابه الفني في ابتعادها عن ما هو سائد في القول والتعبير والإنجاز وفي شكل العلاقة الاتصالية ما بين المتلقي والعمل الفني.
بمعنى آخر يضع ديلان خبرة الجمهور الواقعية في حالة اختبار، وفي لحظة ليست بعيدة عما يتعامل معه ويصادفه يوميا، وهذا يتحقق عندما يتم توظيف هذه الخبرة وتغريبها في مبنى استعاري، ومن الصعب أن يصل الجمهور المتحلق حول العمل إلى توصيف يتجانس مع ما لديه من خبرة واقعية، ومثل هذه التجربة ستجعله يضع توقعاته جانبا، ويختار ان يكون في الموقع الذي يسعى فيه إلى أن يكتشف ما تختزنه المفردات التي استنزفها من ممكنات جديدة في المعاني .
دهشة الطفولة
وإذا ما تعاملنا مع تجربة ديلان باعتبارها اشتغالا على تكريس الخطاب الفني بناء على بنيته البصرية الطاغية في الفضاء، وارتفاع قيمة الجانب الشكلي ازاء المعنى الذي يبدو مستترا، فإننا لا يمكن ان نتجاوز استخدامه للبراميل يعني الاتفاق مع خبرة المتلقي على مقولات متفق عليها مسبقا وعلى معانيها الواقعية، إلاَّ انه ما ان يسحبها إلى خارج منطقها ونمطية علاقاتها الوظيفية حتى يكسبها مقولات أخرى ليست واردة في معجم الجمهور الذي يقف أمامها، كما لو انه يراها لأول مرة ويسعى لان يتعرف عليها، وكأن الفنان يعيدهم إلى طفولتهم ودهشتهم أمام المفردات التي يتداولها محيطهم الإنساني الذي وجدوا أنفسهم فيه.