يُظهر تاريخ الفن ان الرسامين كانوا يسعون دائما إلى ابتكار أشكال فنية جديدة ووسائط غير تقليدية توقا للتعبير عن رؤاهم الفنية. وكان القرن العشرين شاهدا على ظهور حركات طليعية، في مواجهة التصور التقليدي للفن ووسائط الإنتاج، وقدم الرسامون مواد فنية جديدة وهذا يعني أن الفنان الحقيقي يمكنه ان يبتكر أعمالا فنية من أي شيء بهذه العقلية التي تنزع إلى التحرر مما
هو سائد من أساليب وآليات في التفكير والعمل.
كان المشهد الفني العالمي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مطلع الستينات على موعد مع عصر مثير من حيث الوسائط والتقنيات المبتكرة، حيث بدأ الرسامون يعتمدونها في تطوير المشغل الفني، وكان الفن الرقمي واحدا من الابتكارات التي توصلوا إليها، ويمكن القول أن البدايات كانت مع اندي وارهول (1928-1987) الذي انتبه إلى أهمية استخدام التقنيات المتوفرة في الكمبيوتر للخروج بنتاج فني مثير.
إن الاهتمام بمعالجة فكرة المزج بين الفن المرئي والتكنولوجيا، كان قد بدأ منذ العقد السادس من القرن الماضي، والمحاولة الأولى تأخذنا إلى عام 1967 عندما عملت مجموعة من الفنانين من نيويورك منهم، جون كيج وروبرت راوشينبيرغ وروبرت ويتمان وإيفون راينر وغيرهم، مع مهندسين وعلماء من مختبرات بيل ذات الشهرة العالمية لتقديم عروض رائدة تتضمن تكنولوجيا جديدة، وكانت تلك التركيبات والعروض الأولى التي تعزز استخدام التكنولوجيا في إنشاء الفن هي التي وضعت حجر الأساس لمزيد من تطوير الفن الرقمي.
في تسعينات القرن الماضي كانت الانطلاقة الأكثر ثورية حيث بدأت التكنولوجيا تكتسح كل شيء في حياتنا، وكان الفن في مقدمة المواقع التي فتحت أبوابها لهذه الثورة، وسرعان ما أدرك الناس الإمكانات الهائلة لهذه الشبكة العالمية الافتراضية، وبدأ المشهد الفني الرقمي في الازدهار، وساعد الإنترنت العديد من الفنانين في جعل أعمالهم الفنية أكثر وضوحًا، ما زاد من إمكانية الوصول إلى الجماهير في جميع أنحاء العالم، كما مكنت التكنولوجيا الفنان من التلاعب بأعماله بحرية واسعة، بالتالي أصبحت التكنولوجيا الرقمية وسيلة فنية مهمة في عملية الخلق والإبداع، ولم يكن متوقعا ان تصل بها إلى نتائج مبهرة.
تجربتنا العربية ونظرتنا التقليدية
تأخر هذا الخيار التقني في التعبير عن حضوره ضمن مشهد الرسم في المنطقة العربية، بمعنى ان استخدامه لم يأخذ حيزه الذي يستحقه من الاهتمام والانتشار، لأن النظرة إليه ما زالت أسيرة الفهم التقليدي للتجربة الفنية في مشغل الرسم، والفكرة المسيطرة على الكثير من الفنانين على ان استخدام التقنية الرقمية في الرسم تخفي وراءها ضعفا في الامكانات الذاتية للفنان، وهذا التوصيف على ما يبدو لا يخرج عن نظرة قاصرة إلى حد ما تجهل الكثير عما تختزنه التقنية الرقمية من حلول، ربما لا تتوفر لدى الفنان رغم ارتفاع مستواه الفني.
في العراق على سبيل المثال هناك عدد محدود من الرسامين الذين استجابوا بخبراتهم المتراكمة إلى ما يدعو إليه الكمبيوتر من هدم للحواجز التي تقف عقبة أمام خيالات الفنان، منهم على سبيل المثال الرسامان بيات مرعي وموفق الطائي، اللذان قدما اكثر من معرض رقمي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ومن العرب العماني سلمان الحجيري ومن السعودية محمد الشنيفي وهناء الشبلي وغيرهم. وتكاد معارض الرسم الرقمية تعد على أصابع اليد الواحدة أمام زخم المعارض التي تعتمد الطريقة التقليدية في إنشاء وبناء اللوحة .
فالتكنولوجيا الرقمية لم تعد وسيلة مساعدة في الإنتاج الفني في الوقت الحاضر، بل أمسى معظم الفنانين والمتخصصين في مجال الفن يتعاملون معها باعتبارها أداتهم الرئيسية في ابتكار الأشكال والتصاميم، بعد ان وجدوا الحوافز الديناميكية التي تقدمها بما يسمح لهم بإنشاء قطع فنية تتناغم مع قدرات مخيلتهم الجامحة وتعكس في أشكالها حدودا فسيحة من الجاذبية، وهناك الكثير من الأعمال التي نتجت عن هذا التلاقح بين قدرات الفنان والتكنولوجيا كانت عبارة عن تركيبات فنية اجتمعت فيها وسائط مختلطة تنتمي إلى تخصصات متعددة.
من جانب آخر، من المنطقي ان تظهر ردود أفعال رافضة لهذه العلاقة، ومن غير الممكن تجاوز الجدل القائم بهذا الصدد الذي أثاره فنانون هنا وهناك، ولاشك في ان الرفض لن يؤدي إلى إيقاف حيوية العلاقة الجديدة التي نشأت بين الفن والتقنية الرقمية، لأن أعمال التحديث والتطوير في إطار التقنيات الرقمية تشهد قفزات هائلة في النتائج، انعكست على مجمل شؤون الحياة الإنسانية وفي مقدمتها الفنون.
ما الغاية المرجوّة ؟
ماذا يعني الفن الرقمي إذا ما اردنا تعريفه ببساطة ووضوح؟ انه نمط جديد من التفكير يعيد صياغة العلاقة بين الفن التقليدي والتكنولوجيا، وهو بذلك يأخذها إلى آفاق واسعة من الامكانات ربما لا تقف عن حد معين. والسؤال الذي قد يطرح هنا: ما هي الغاية المرجوة من وراء ذلك على المستوى الفني؟ والإجابة على السؤال تنحصر أولا في قضية إنشاء لوحة فنية شديدة التعقيد والتركيب، تتشابك وتتقاطع فيها الوظائف، ويصح لنا ان نطلق عليها لوحة وهمية، لأن ما يلاحظه المتفرج ليس لوحة حقيقية بالمفهوم التقليدي الذي تعودنا عليه، إنما بناء فني ينحصر نطاقه في عالم رقمي غير مرئي وغير واقعي، على اعتبار ان الرسم الرقمي قائم على استخدام البرامج التي تُترجم إلى صور مختلفة، وهذه الخاصية تشير إلى أن الفن والحوسبة يسيران جنبًا إلى جنب، وأن التحديث التكنولوجي لا يمكن فصله عن مجمل تفاصيل حياتنا، ومن غير الممكن أبدا تجاوزه والارتداد إلى الخلف والاكتفاء بالطرق والأساليب التقليدية في التفكير والإنتاج، بل أصبح واقعا يحيط بنا ويرسم مديات ما نسعى إليه، حتى انه فرض سطوته في مجموع العلاقات التي نرتبط بها مع الأشياء والموجودات .
من دون شك إن حضور تطبيقات برامج الكومبيوتر في إطار الفنون وخاصة الرسم منح الفنان محفزات كبيرة، دفعته إلى خلق عوالم من الخيال، خاصيتها الأساسية انها تبتعد في استعراضاتها الشكلية عن التمثيل الكلاسيكي للواقع، ومن ناحية أخرى إلى الاندفاع بشكل واضح للتفكير في تطوير الرؤى الفنية المعبّرة عن تطلعاته، وهذا ادى إلى كسر التوقعات لدى المتلقي، من ناحية وضعه أمام مغامرات فنية منفصلة عما يتراكم في ذائقته من أنماط وأساليب في التعبير.
معارضة شديدة
ورغم الآفاق الشاسعة التي باتت أمام الفنان بعد هذه الثورة الرقمية، إلاَّ ان معارضة شديدة لهذه البنية الفنية الجديدة ظهرت في مواجهة ما أصبح عليه حال الرسم، حيث برزت الكثير من الانتقادات التي أطلقها فنانون يحتفظون بقناعات تقليدية حول الفن، منطلقين من قاعدة ثابتة لديهم تؤكد على ان ما ينتج من لوحات عن هذا المشغل الرقمي لا يمثل مظهرا فنيا، طالما يتكئ على التكنولوجيا في التنفيذ، مع ان العديد منهم لا يستطيع ان ينكر ما تمخضت عنه التقنية الرقمية في الرسم من طرق جديدة في الرؤية والعمل.
بطبيعة الحال لا يمكن بعد الآن تجاوز الفن الرقمي، وما يتيحه من امكانات هائلة في الإنجاز، ولا غرابة عندما يدافع الفنانون المنخرطون في هذه التركيبة ويصرون على ان الأدوات الرقمية باتت ضرورية جدا لتنفيذ العمل، ومن غير الممكن استبعادها، بعد ان توفرت من خلالها ممكنات ثورية ابتعدت بالرسم عن الخيارات المحدودة إلى حد ما في المنظومة التقليدية. ولكن ما ينغي التأكيد عليه في هذه المسألة أن الإبداع الشخصي والقدرة على التعبير، ما يزالان يعتمدان على الموارد الاساسية للفن التقليدي مثل: النقطة، الخط ، المخطط، المستوى، الحجم. وتمثل هذه العناصر إشارة واضحة على حضور المفردات التقليدية في الثورة الرقمية، رغم كل ما تختزنه التكنولوجيا من امكانات لا حدود لها.
وكل يوم يثبت الفنانون الرقميون وفي المقدمة منهم الرسامون، أن أعمالهم الفنية وبالتفاعل مع التكنولوجيا المتقدمة تعمل على إحداث تغيير في عالم الفن، سواء من حيث الأدوات أو العلاقة بين اللوحة والمتلقي. بمعنى ان هناك عملا مستمرا قائما على تخطي الأنماط التقليدية في التعامل مع التجربة الفنية، كما أتاحت التكنولوجيا الرقمية الفرصة لأكبر عدد من الأشخاص الوصول إلى عوالم الفنون، بعد ان كانت لغزا وعالما مغلقا يصعب الوصول إليه، ما أدى إلى خلق مساحة للهواة في ان يكون لهم مواقع ومنصات رقمية لعرض ما لديهم من أعمال فنية ومشاركتها مع الآخرين، بذلك سمحت وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية لغالبية البشر، في ان يعبِّروا عن مشاعرهم ومعتقداتهم وكان من المستحيل ان ينالوا مثل هذه الفرصة لو لا فضائل الثورة الرقمية.
المفاجآت المتعلقة بالفن الرقمي أمست تتجاوز تصوراتنا وما يمكن ان نتخيله، حتى ان مسألة تحويل صورة واقعية إلى عمل مختلف تمامًا عن حقيقتها وتعديلها بالأدوات التي يوفرها جهاز الكمبيوتر أصبحت من الأمور التي لا تدفعنا إلى الاندهاش لأننا مسبقا نتوقع ذلك، والمهم في هذه العملية برمتها أن يكون لديك إبداع وخيال إلى جانب ضرورة تطوير المعرفة والمهارات للاستفادة من امكانات الكمبيوتر .
الفن الرقمي طاقة إضافية للإنتاج والوصول الى أعمق نطقه في الخيال تلك البقعة التي ربما يصعب على قدرات الخيال البشري الوصول اليها لذا توجب التحليق في عالم التكنلوجيا للوصل الى تلك الجزر الإبداعية والجمالية .. وهذا كله مستحيل ان يتحقق الا اذا استخدمت التكنلوجيا من خلال عقلية بشرية متنورة وخلاقة وذات ذائقة متقدة …