الرسّام العراقي طلال غانم: ابتكار الجَمَال مِن رُكام الحَرب

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

ما أن يبدأ الرسام طلال غانم مغامرته اللونية باحثا ومتأملا في سخونة وغموض التجربة الفنية ويجد نفسه حاضرا في الحياة التي غيبتها الحرب، حينها تكون الفرصة متاحة أمام ذاته للتعبير عما يحمله من تأويلات ازاء منعطفات واقع معاش. وفي مسار تجربته التي ابتدأت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد أن تخرج من قسم الرسم في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، لم يكن هاجسه وهو يتحسس الألوان إلاَّ ان يوقظ مشاعر الحب في زمن تسوده الفوضى ورائحة البارود، محاولا ان يحيل نصه التشكيلي إلى فصول من العشق وموعد معطر بالبهجة، فالرسم بالنسبة له إمعان في ابتكار الجمال الشخصي من بين ركام الأشياء وانصات إلى موسيقى الروح وهي تناور الأشكال لتستحيل إلى مفاهيم.

تجاوز معطيات الواقع

في معرضه الأخير الذي أقامه في منتصف شهر شباط/فبراير الماضي في قاعة «دار مار بولص» في الموصل، قدم ثلاثين لوحة فنية، سعى من خلالها إلى أن يمد أناشيد التواصل الإنساني والفني مع الآخر المختلف في الهوية الدينية والاثنية، من بعد ان أوصد العنف والتطرف الأبواب والمسالك ما بين أبناء البلد الواحد.
في بنية لوحته تتعالق مساحات من عوالم متناقضة إلاَّ انه ورغم استعارتها من مكونات خارجية متعددة المستويات بواقعيتها ينأى بها بعيدا عن حيزها الذي استلها منه، فيكشف لنا عن قراءة انزياحية تأخذها إلى عوالم جديدة، تنتمي لمخيلته الذاتية بكل خاصيتها التجاوزية. حتى انك عندما تتأمل اللوحة لن تعثر على الدال الواقعي بقدر ما يقدم لك عالما متخلِّقاً، ولهذا العالم مكوناته الذاتية التي ينغلق عليها غذا ما تغاضيت عن العنوان الواقعي الموصول في اللوحة والذي قد يشير إلى مكان مُحدد أو حدث معروف، وهذا ما يمكن استنباطه من لوحاته التي حاول فيها أن يسقط ما حل من دمار في مدينة الموصل القديمة، فقد انشأ منتجا فنيا تجاوز فيه معطيات الواقع بكل قسوتها ووحشيتها، ووضع المتلقي أمام لوحة فنية تحمل في ذاتها رؤية تعتمد على قوة الخطوط والأشكال الحادة بألوانها الداكنة، فكانت النتيجة اشكالية غرائبية، لأنه أطلقها من إطار الزمان والمكان ومنحها مقاربة جمالية تستفز مفردات الواقع الذي انسلخت عنه ولم تنسلخ منه.
في إطار الرسم لم تعد العلاقة مع الأشياء قائمة على المحاكاة ما أن بدأت مدارس الفن الحديثة مع الانطباعية وما تبعها من أساليب ومدارس، حيث نأت في معالجاتها للموضوع الواقعي إلى اقصاء عملية الاستنساخ أو الخضوع الكلي للمنهج الواقعي وما تنطوي عليه تقنياته من تكريس تنميطي للظاهر والمرئي أمام الفنان، فالمهة التي بات على الرسام أن يأخذها بنظر الاعتبار تكمن في القيم النقدية التي يمتلكها ويجترحها في حقله الإبداعي، وطلال غانم بقي لفترة طويلة يشتغل انطلاقا من هاجس ذاتي يقوده إلى ان يتأنّى كثيرا في إنتاج أعماله، ولكي يصل إلى نتيجة يؤسس فيها تجربته الذاتية استغرق وقتا طويلا في استجلاء ما يمتلكه من امكانات، وهذا الحرص في الوصول إلى التفرد في الأسلوب وسط مشهد تشكيلي حافل بالأسماء والتجارب المهمة تجسد بشكل خاص في إطار اللون باعتباره العنصر الأبرز الذي يحمل كما هائلا من مستويات التعبير والكشف والغموض والإيحاء. وفي معرضه الأخير ينطلق في ارساء حضوره الفني عبر مساحة لونية كثيفة، فكان ذلك ارساءً اجرائيا لرؤيته التي نسج خطوطها بمحمولات مكوناته البيئية وما تفصح عنه من وشائج انطوت على اشارات الحكاية الموحشة والمؤلمة لمدينته الواقعية في مقابل مدينته المتخيلة.
من خلال هذا المعرض يمكن الخروج بقراءة نقدية تلمس السياق العام الذي يشير بعناصره إلى خواص التجربة الذاتية للرسام طلال غانم، ذلك لانه ضم أعمالا مختلفة ومتنوعة من حيث مرجعيتها الزمنية وما شهدته من تحولات في التقنيات المستخدمة وكيفية تعامله مع الكتل والتكوينات واللون في فضاء اللوحة، والملاحظ أيضا أنه لم يتوقف عند حدود أسلوب معين في تعامله مع الموضوعات والأفكار بل كان دائم المحاولة في اكتشاف تربة خصبة يمكن من خلالها ان يمفصل هواجسه الفنية، ومن هنا كان التنوع سمة واضحة في اشتغالاته التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود.
من حيث الأسلوب تتجلى في لوحاته الخلاصة الفنية التي بات ينفرد بها في تناول أفكاره، والتي يمكن الاشارة بعائديتها إلى خصوصية تجربته الفنية، إذ لم يعد في اللوحة من موضوعة ذات نسق حكائي تستدعي من المتلقي ان يستجمع تفاصيلها المتناثرة من بين الألوان والأشكال بقدر ما أمست اللوحة ممارسة إبداعية في سياق النزوع إلى سحب الأشياء داخل منطقة التخييل لتتمظهر فيها انطباعات وهواجس ليس من السهولة الامساك بموتيفاتها الواقعية التي استوحى منها أفكاره.

راديكالية التجربة

في الفن الحديث لم يعد هناك من عناصر ثابتة يركن إليها الفنان، ودائما ما نجده يتوغل نحو الاكتشاف والتجريب خارج إطار المتداول من أفكار وتقنيات وخامات، وهذا يبدو واضحا في الفن الغربي عموما، إذ لم يعد هناك نُظم ظاهرة وشاخصة في الأساليب والمعالجات، فالنزعة الفردية لدى الفنان وصلت في بعدها الشكلاني إلى مستويات غريبة ومدهشة واستفزازية في كثير من الأعمال، حتى بات المتلقي يقف حائرا أمام الكثير منها، ولا يعرف ما إذا كان يضعها في خانة الفن أم بعيدا عنه. ولكن هذا المستوى الراديكالي في التفكير الفني الذي كرسته فنون ما بعد الحداثة ومن خلاله تحطمت القواعد والنظم سواء في رؤية اللوحة أو في علاقتها مع المتلقي لم يصل إلى محترف الفنان في المنطقة العربية عموما، والعراق في طبيعة الحال جزء من هذه الظاهرة، فما زال هناك تلامس متوجس وخجول مع هذا التحول، والفنان طلال غانم يحسب أيضا على بنية هذا المشهد التشكيلي المتردد، إذ ما يزال يشتغل في إطار تجليات الحداثة وتحققاتها الأسلوبية بحثا عن صياغات فنية للموضوعات بعيدا عن التوظيف والإسقاط الموضوعي، فاللوحة بالنسبة له تتشكل العلاقة بينها وبين المتلقي في حدود غياب العناصر الواقعية داخل مساحات من اللون تبدو صارمة وحادة، وعلى المتلقي ان لا يستدعي من ذاكرته دلالات متداولة ويسقطها عليها، بل تدفعه مجموع العناصر الفنية إلى اكتشاف تجليات الفكرة في قراءات مختلفة ومتنوعة، لأن مساحة الوهم والتخييل فيها تتجاوز ما هو كائن في توزيع علاقات الكتل في الواقع.
في هذا السياق من المناخ المفاهيمي الذي انطلقت منه لوحاته فانه يقدم لنا نموذجا للرسام الذي ترتبط ذاته مع خارجها وفق تجليات فنية لا تخضع إلى ما ترسب لديه من مقولات تراكمت عبر تجربته الخاصة بقدر ما تتحدد بمستوى علاقة المحايثة مع الزمن والتي تتجلى في مقارباته السيمائية للموضوعات التي يعالجها.
لدى طلال غانم وفق انشائية اللوحة، هناك صياغة بنائية قائمة على تواطؤ رمزي مع المشاعر والأحاسيس في التعامل مع الأشياء، تتجاوز حدودها الوظيفية في الحياة، وهذه البنية التركيبية تنسف المنطق القائم ما بين المفردات على المستوى الإنساني والحياتي لتشكل فرضية شكلية لها منطقها الفني في تأسيس منظومة العلاقات مع العناصر المرئية، وقد تجلى هذا الخيار الفني بشكل واضح في الأعمال التي أنتجها بعد الحرب الكارثية التي شهدتها مدينة الموصل وما حل بها من خراب شامل، لم تكن الذاكرة الفردية والجمعية قد تهيأت بعد لكي تستوعب احتمالية وقوعه على تلك الصورة التي تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية