الرقمنة والإنسان الزائد عن اللزوم

هل يمكن للروبوت أن يكتب نصوصًا مثل «البخلاء» أو «أولاد حارتنا» أو «عابرون في كلام عابر» بعد ظهور الأدب الرقمي، وترابطات النصوص التشعبية؟ وهل تقوم الإنسانيات الرقمية بثورة فعلية في مجال الدراسات الأدبية، وتمنح لنا فهما أكثر اتساعا وأكثر تفصيلا للأعمال الإبداعية ولأدائها الدلالي؟ وكيف يمكن لنا التوفيق بين تيقننا من عبقرية الآلة، وهي تسهل ظروف معيشنا وبين تيقننا من كونها صماء في مجال العواطف البشرية؟ وما حدود صدقية قول ستيفن هوكينج: «إن تطوير الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتسبب في نهاية الجنس البشري. لأن البشر مقيدون بالتطور البيولوجي البطيء، ولا يمكنهم التنافس مع الآلات التي تعيد برمجة ذاتها بسرعة»؟ وهل يمكن القبول بتفوق الآلة على مخترعِها بعد أن هزم حاسوب «ديبر بلو» منافسَه غاري كاسباروف في لعبة الشطرنج؟ في محاولة منا للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة، سنطوف مع القارئ بين مجموعة من الرؤى لمختصين في المجال الرقمي وفلسفاته.


يذهب فريدريك كابلان، أستاذ العلوم الإنسانية الرقمية، إلى الإقرار بأنه بإمكان الآلة أن تخوض في مجال العواطف والروحانيات (هناك تفصيل لذلك في كتاب: «هل الروبوتات تُحب؟ نشر دينو 2016)، فالبيانات الضخمة للحواسيب ستسمح حتما ببناء نماذج تفسيرية جديدة، وستسمح لعلماء الوبائيات بأن يفهموا بشكل أفضل انتشار الأمراض الكبرى، وسيقوم الاقتصاديون بإعادة تفسير تاريخ النمو وأزمات الرأسمالية، وسيفهم اللغويون الشبكة التطورية للغاتنا، وسيتمكن الذكاء الاصطناعي من استنباط بنية المساحات الماضية غير الموثقة، ومسارات الجهات الفاعلة في ذلك العصر، عبر إعادة منحها بعدًا عاطفيًا».
ويُعالج جون ميشال بانييه، أستاذ تكنولوجيات المعلوماتية والاتصال، إحدى القضايا الكبرى لفلسفة التكنولوجيا، وهي المتصلة بالعلاقة القائمة بين الإنسان والآلة. ويؤكد الباحث انتصارَ الآلات، وليدة التقنية والذكاء البشري، على الإنسان ذاته، وهو ما جعله يقول في محاضرته الموسومة بـ»مستقبل الإنسان» بأن المستقبل لم يعد من اهتمامات الإنسان، لأنه صار مقذوفًا داخل الخيال العلمي. فالتكنولوجيا، حسب رأيه، صارت دائمة الحضور، بل وذات سيادة استبدادية، وذلك من جهة أن الإنسان صار مضطرا إلى الامتثال لمتطلباتها حتى يسهل تحقيق حاجاته المتنامية. وفي أفق هذا الاضطرار، يمكن التنبؤ باستغناء الآلة عن الإنسان، هذا الكائن غير الكامل، الذي أضحى في الواقع «زائدا عن اللزوم».

كان هيدغر قد أعلن عن انتصار لغة التكنولوجيا وهزيمة اللغات التقليدية، وأكد بعدَه هاينز فيسمان سيادةَ لغات ما يسمى بالخدمات ذات الطابع الآلي على لغات الأدب التي تنكمش أكثر فأكثر.

وفي الشأن ذاته، لا يُخفي الباحث دافيد أورال في كتابه «السيبرنطيقا والإنسان» (غاليمار 1965) قولَه: «إن تنظيم العمل قد خلق نوعًا من مطاردة الإنسان في المصانع. فالجسم البشري هو الحلقة الضعيفة الوحيدة في النظام الميكانيكي. وعندما يتم طرد آخر عامل من المصنع، سنكون قادرين على استيعاب الإتقان المتناغم وغير المحدود لمجموع الآلات». ومنذ سنوات قليلة، قام الفيلسوف غونتر أَنْدَارِسْ بتشخيص مرض غريب لدى معاصريه سماه «خجل بروميثيوس»، ويعني به الإدراك المرهق لكوننا لسنا في مستوى الآلات التي قمنا بإنتاجها، فنحن مجبرون على تقليد الآلات، أو الامتثال لمطالبها المهيمنة. وفي الواقع، يكون من السهل أن نلاحظ أن الإنسان الحديث، الذي نعتقد أننا قد صرنا إليه، والمسكون طبيعيا بالرغبة في الاستقلالية، شغوفٌ بربط نفسه بالآلات بجميع أنواعها وبمطالبة الروبوتات بتحريره من قلق اتخاذ القرار. والنتيجة حسبما يقول جون ميشال بانييه في كتابه «الإنسان المُبسط» (فايار 2012) هي أنه لم يعد الواقع مدهِشًا، لأنه فقد أسرارَه، وتعرى تماما، فإذا كنت طالبًا خدمةً ما فما عليك سوى أن تقبل أوامرَ البرامج المصممة لذلك لتحصل على حاجتك، ولا يَخفى هنا حجمُ المازوشية التي يمكن ملاحظتها لدى مستخدم الهاتف، حين يُجبَرُ على الضغط على المفاتيح التي تُملي عليه الضغط على خانات بعينها، وعلى إدخال البيانات في الأماكن المخصصة لها، أو على استخدام رموز محددة مسبقًا من قبل مهندس مجهول لا يكترث بأحوالنا الشخصية لحظة استخدامنا الآلةَ، ولا بحاجتنا إلى بعض الفكاهة في التواصل معها ولا بميلنا إلى أشكال معينة من بلاغة اللغة!
الشائع، على حد رأي جون ميشال بانييه، هو أن الآلة تقلدُ حركةَ الإنسان، غير أن الواقع يدحض هذا القول، إذْ صار الإنسان نفسه يرغب في أن يقلد عمل الآلة وإتقانَها ويقينَها، بل ويرغب في أن يكون آليا على حد ما ذكرَ به الفيلسوف كانغيلهام صاحبَه ديكارت. والنتيجة، وَفْقَ بانييه، هي أننا نتساءل اليوم عن المكان الذي يمكن أن نؤوي فيه ما تبقى فينا من إنسانية. كان هيدغر قد أعلن عن انتصار لغة التكنولوجيا وهزيمة اللغات التقليدية، وأكد بعدَه هاينز فيسمان سيادةَ لغات ما يسمى بالخدمات ذات الطابع الآلي على لغات الأدب التي تنكمش أكثر فأكثر. فلم يعد يوجد، الآن، من الرموز إلا تلك الخاصة بالرياضيات، أي القابلة للصياغة رقميا والتي يمكن ترجمتها بالخورازميات على الآلات. لقد مضى الزمن الذي كان فيه من الممكن اعتبار العمل والكلام عنصريْن مهمين لكل حياة بشرية، يضمن الأول ضرورات البقاء على قيد الحياة، ويفي الثاني بمتطلبات الحرية. إنه انتصار البعد الأحادي، كما كان يقول هربرت ماركوز، فقد قدمت الآلات، عبر اختراقها حياتنا اليومية بفضل كفايتها العالية التي لم نعد قادرين على منافستها عليها، الهيمنةَ الكلية لمنطق عملها. وفي الختام ما يمكننا قوله هو أننا نعتاد، بشكل خطير، على تقليص اللغة إلى نظام من الإشارات مهمتها إثارة ردود فعل يمكن فك شيفرتها بواسطة الآليين الذين سيزداد تفاعلهم فيما بينهم ويتحررون من قيادتنا لهم. فهل أن مسألةَ طردِ البشر من الحياة أمرٌ على وشك الحدوث؟

٭ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية