لا يدور البحث راهناً حول إنقاذ لبنان من الانهيار، بل حول كيفية التخفيف من وطأة الارتطام الكبير. فاللبنانيون يعيشون فصول الانهيار المتسارع مالياً واقتصاديا وصحياً وتربويا، كنتيجة حتمية للانهيار السياسي والدستوري في البلاد، من دون أي أفق للخروج من القعر.
بات واضحاً من حركية المجتمع الدولي أنه يتعامل مع لبنان من موقع تقديم المعونة الإنسانية، تماماً كما يتعامل مع الدول التي تضربها المجاعة والفقر والعوز. يكفي أن يُعقد مؤتمر من أجل دعم الجيش اللبناني غذائياً للدلالة على حجم الكارثة من جهة، والتوجّه العام الدولي من جهة ثانية. تحولت المساعدات الاقتصادية، التي كان بإمكانها أن تعيد وضع البلاد على طريق الإنعاش والحياة، إلى مساعدات إنسانية بفعل غياب «الشريك الداخلي». هكذا يوصّف دبلوماسي عربي معني بالملف اللبناني واقع الحال. «والشريك الداخلي» هنا، هو وجود حكومة. وتأليف الحكومة تعيقه حسابات لبنانية وما فوق لبنانية. وبالتالي، فإن الدرب مقفل أمام الحلول.
تتداخل الحسابات الداخلية بتلك الخارجية وتتشابك وتتماهى مع بعضها البعض. تقوى حيناً لعبة التمويه وتخفت حيناً آخر. من يمكنه، على سبيل المثال، أن يُصدّق أن كل الذل الذي وصل إليه اللبناني، واستعصاء تأليف الحكومة سببه طموحات شخصية لجبران باسيل صهر رئيس الجمهورية في الوصول إلى سدة الرئاسة خلفاً لعمه ميشال عون؟ باسيل الذي أعلن أنه يخوض معركة حقوق المسيحيين، رافضاً أن يُسمّي رئيس الحكومة المسلم السني وزيرين مسيحيين، محولاً عملية توازنات وزارية إلى مس بالدستور والتوازنات الوطنية. ومن يمكنه أن يُّق أن «حزب الله» يبقى متفرجاً لو لم يكن له مصلحة في الإبقاء على «الستاتيكو السياسي»؟.
لا يطيب لدبلوماسي عربي ربط الاستعصاء اللبناني بحسابات خارجية. برأيه أن «المشكلة داخلية بشهادة كل الأطراف اللبنانيين». يقول: «إن هناك من يريد أن يُحَصّل مكاسب على جثة لبنان. ولم يعد ترفاً البحث عن ذرائع من خارج الحدود، فذلك شراء وقت ما عاد أحد يملكه، ومن أضعف الإيمان أن تتم تسمية الأشياء بأسمائها.»
هذه القراءة تذهب إلى أن الواقع اللبناني لا يتنظر حسم الجدل حول جنس الملائكة، فإما تشكيل حكومة ولو في الساعة الأخيرة من أجل إدارة الارتطام والتخفيف من آثاره الصعبة لإعادة هيكلة الاقتصاد أو أن الواقع سيفرض إعادة الهيكلة إنما بالآليات الوحشية للاقتصاد التي تفرض التوازن غير الإنساني. فتعريف الانهيار هو الوصول إلى التوازن بأكثر الطرق وحشية، بمعنى أن الاقتصاد لا ينتظر السفسطة السياسة في ظل عدم وجود حكومة يفترض أن تكون وظيفتها التخفيف من الأعباء. ستتحكم بربرية آليات السوق. سيموت الناس أم لنقص في الطعام أو الدواء، أو لعدم القدرة على شرائهما.
فعلى عكس ما كان يظنه اللبنانيون من أن العالم لا يدير ظهره للبنان، فقد حصل هذا الأمر، بفعل تغيّر موقعه الذي لم يعد الرئة المالية للمنطقة، ولا عاد هو خط التماس الأساسي للصراع الدولي. هو أضحى أصغر ساحة صراع في منطقة ملتهبة بالصراعات، وهو أقلها كلفة. هذا الموقف تُعبّر عنه دول لا تزال تنطلق من أن حماية لبنان هي جزء من حماية أمنها القومي والأمن القومي العربي.
ما هو جلي أنه يتم التعاطي مع لبنان دولياً من المنظور الإنساني، يتم مده بالمساعدات الإنسانية للناس من أجل تخفيف وطأة المعاناة، التي ستؤدي إلى فوضى مجتمعية، ويتم دعم الجيش والمؤسسات الأمنية بالمساعدات المطلوبة لضمان بقائها من أجل المساعدة على التخفيف من وطأة البربرية أو الفلتان الذي سيحصل.
هو واقع باق حتى موعد الانتخابات النيابية في ربيع 2022، حيث الرهان الدولي على أن تفرز الانتخابات النيابية المقبلة تبدلاً في موازين القوى السياسية عن طريق صناديق الاقتراع بما يؤدي إلى الخروج من حالة التعطيل السياسي الحالي. هذا معناه عملياً أن المجتمع الدولي ينتظر أن تتغير المعادلة السياسية بحيث تنتقل الأكثرية من ضفة إلى أخرى. الأكثرية اليوم بيد تحالف يديره «حزب الله». والعامود الأساسي في هذا التحالف هو رئيس الجمهورية وتياره السياسي، الذي يحظى في البرلمان بالكتلة الأكبر التي تقوم في جانب منها على تضخيم متعمد بفعل الحاجة إلى الدور السياسي الذي تقدمه.
فـ»حزب الله»، رغم كل قوته العسكرية وسلاحه، ما كان قادراً على خلق كل هذه التحولات من دون شريك داخلي قوي أمن َّ له الغطاء السياسي، بغض النظر عما إذا كان هذا الشريك يُؤمِن بالمشروع السياسي للحزب وللمحور الذي تقوده إيران أم لا. كان عون يبرر أمام بيئته تحالفه مع «حزب الله» بأنه يحميها من خطر هذا الحزب عليها، فبل أن يكون يحميها من خطر الآخرين عليها، والذي حمل عنواناً لاحقاً هو «الإرهاب السني».
الرهان الدولي يحمل في طياته هدفاً يقوم على تغيير موازين القوى السياسية اللبنانية، ما يطرح سؤالاً جوهرياً عمّا إذا كان «حزب الله» سيكون مسهلاً لعملية إضعافه عن طريق إضعاف حليفه المسيحي الأول. هل الحزب في وارد خسارة سيطرته على القرار اللبناني بعدما أخضع خصومه ترغيباً وترهيباً؟ الحزب ينتظر تطورات المنطقة التي هي في خضم تحولات جيوسياسية، مع قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالخروج من الشرق الأوسط. هو جزء من محور يريد أن يملأ الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأمريكي والذي سيكون للصين ولروسيا مكان فيه. لا تقف حساباته عند المصلحة اللبنانية بل عند ما يؤمنه لبنان من مصلحة لمشروعه العقائدي والسياسي الأكبر، والذي يراه على طريق تحقيق مزيد من الانتصارات اليوم مع وجود الحزب الديموقراطي في «البيت الأبيض» الذي سيعود إلى الاتفاق النووي مع إيران. وقد بدأ مسار رفع العقوبات عنها. يدرك «حزب الله» أن إيران في زمن إبراهيم رئيسي المتماهي مع الحرس الثوري ومع المرجعية الدينية ستكون أكثر إصراراً على مد نفوذها في الإقليم وتكريسه. تعمل إيران وأذرعها العسكرية على خلق وقائع على الأرض بغية تحولها حاجة ستتكىء عليها واشنطن لحماية مصالحها حيث تنسحب وستتشارك وإياها حيث تبقى.
فقد بدأت أحاديث تتسرب من كواليس قريبة من «حزب الله» عن إمكانية عدم حصول الاستحقاقات الدستورية النيابية والرئاسية في مواعيدها الطبيعية. وبالتالي، ليس من الصعب خلق الظروف من أجل أن يصبح خيار التأجيل واقعاً معمولاً به من قبل كل الفرقاء الداخليين، حتى وإنْ كان التوجّه الدولي، الذي أفضى إليه الاتفاق الأمريكي- الفرنسي- السعودي عقب اللقاء الثلاثي في روما، يقضي بالعمل على منع أي محاولات تأجيل لبنانية للاستحقاقات الدستورية. هذا التوجه بحد ذاته هو ما سيقلق «حزب الله» في القريب الآتي، وسيكون عليه العمل على فرض تحالفات قادرة على إعادة انتاج نفس التوازنات السياسية التي توفر له إحكام قبضته على البلاد، وإلا اللجوء إلى سلاح التعطيل لفرض تعديلات جديدة، دستورية أو سياسية أو ميدانية، تكون بمثابة «الانقلاب الكبير.»
لبنان الذي أضحى في قلب الانهيار وعلى مشارف الاندثار هو في حضرة قوى سياسية إما عاجزة وخائفة على مصير جماعتها أو متواطئة، وفي حضرة شعب لا يعرف الكثير عن بعضه البعض. اللبنانيون عالقون بين ماض يؤمنون أنه كان عريقاً وبين حاضر يروونه قاتماً وبين مستقبل يريدونه زاهراً على شاكلة النهايات الجميلة في الأفلام، ولكن كثيراً ما لا تتحقق تلك النهايات.