الروائيات
خيري منصورالروائياتغالي غالب هلساف لأن شهرزاد هي محترفة السّرد الذي يؤجل موتها، فقد كانت أولي من شهريار بالمبادرة الي تأليف رواية الروائيات، لكن الراحل غالب هلسا كان بهاجسه الاستباقي، ومغامرته قد أصدر الروائيون ، مقتربا هذه المرة من نفسه، رغم ان غالب كان صريحا في الاعتراف بمساحة السّيرة الذاتية في الرواية، لهذا سمي بطل الخماسين باسمه الصريح.واذا كان العقدان الأخيران قد شهدا انتفاضة شهرزادية علي صعيد السرد، فذلك مردّه الي أبعد من الأسباب التي غالبا ما يسارع الي ذكرها المدرسيون، فالمرأة العربية الان لا تروي لكن تؤجل الموت مع كل صياح ديك، انها تثأر لتاريخ من الصمت القَسْري، اذ طالما ناب عنها الذكر حتي في كتابة مذكراتها، وحين اصدر الراحل نزار قباني يوميات امرأة لا مبالية، كان قد سعي الي حالة من التقمّص بحيث ينوب عن المرأة في شرح ذاتها وما تفاقم في عالمها السفلي من المكبوت النفسي والجسدي !وهناك مثقفة مصرية قالت ذات يوم ان اقتران تحرير المرأة برجل هو قاسم أمين ليس أمرا ساراً لإناث العرب، وباختصار كان لدي المرأة علي الدوام هاجس مزمن يحرّضها علي استعادة الذات والدور المصادر،لكن حفيدة شهرزاد يتهددها روائيا خطران أولهما فكري ـ ايديولوجي والثاني تقنيّ فني خصوصا بعد أن أصبحت الروائيات الأكثر رواجا هنّ اللواتي يستقرئن الجسد، ويجهرن بما كان قيد الكتمان لزمن طويل…والفارق جوهري وكبير بين رواية الاستبطان ورواية الستربتيز، فالأولي انسانية اولا لأن ما تعاني منه نساء العالم من شروط وجودية، ووعي تراجيدي بالزمان وأخيرا بالموت ليس منطقة او مساحة معزولة عن الرجل، هذا بالرغم من الإغواء الاجرائي الذي يجتذب كاتبات دافعهن الاساسي هو تصفية الحسابات الجنسوية والثأر التاريخي!وفي عالمنا العربي الان ساردات يجترحن آفاقا لم يبلغها الذكور، لكنهن الاقل رواجا وتداولا، إما بسبب العزوف عن استرضاء النقد وممالأة محترفيه، او بسبب الانصراف عن الواجهة وما تعج به من تماثيل الشمع والملابس الداخلية. ومن قرروا ذات يوم ان مصطلح الأدب النسوي لا يليق بابداع انساني يتجاوز الشرط العضوي عادوا في الكثير من المناسبات الي استلهام ذلك المصطلح بل الاحتكام اليه وهم يعقدون المقارنات ويحددون المقتربات الاجرائية في نقد لم يتحرر من ايديولوجيا السطو الذكوري.والكاتب سواء كان رجلا او امرأة يجد نفسه كما قال ارنست همنغواي متورطا في عمله الأول بمخزون السيرة الذاتية، ومن لا ينتبه من الروائيين الي هذه المسألة قد يجد نفسه خالي الوفاض بعد العمل الأول، لهذا كان همنغواي من اوائل المستفيدين من تلك الموعظة، واستطاع تسريب سيرته الذاتية في العديد من الاعمال، مما أتاح لناقد مثل فيليب يونغ ان يرصد الخيط السري في اعمال همنغواي كلها، ليذكرنا بما يقال عن كون كل كاتب أصيل ذا نبع واحد يغذيه… لكنه يتنوع ويتجلي عبر موجات متصاعدة…وما قاله همنغواي، سبق لألبير كامو أن ذكره في كتابه المبكر وجها الحياة حين اعترف بأن النبع الذي غذّاه علي امتداد حياته الأدبية لم ينضب، وهو بالطبع نبع وجودي لكن خارج نطاق التعريفات التقليدية للمذهب الوجودي بشقيه.. المادي الجدلي الذي مثّله سارتر والمسيحي الذي جسّده كيركغارد وغابرييل مارسيل!ہہہكانت المرأة في الثقافة العربية لزمن طويل مادة للكتابة، وموضوعا لسجال الذكور، وكأن القصور الوهمي الذي افترضه الرجل هو الذي أدّي الي أدبيات الوصاية ومنطقها الباتريركي!ومن المفارقات علي هذا الصعيد أن الرواية العربية الأولي، او ما أتفق نقديا علي أنها العمل الذي دشّن الحقبة الروائية في ثقافتنا كانت من تأليف رجل هو محمد حسين هيكل، لكن عنوان الرواية كان امرأة… اسمها زينب !فما الذي رواه شهريار الذي احترف حسب الحكاية الاصغاء، والانتشاء بالسّرد الذي تبتكره الانثي المهددة بالذّبح اذا صمتت ؟؟في المثال الذي اوردته عن نزار قباني، ناب شهريار عن شهرزاد في البوح، لكنه عندما فعل ذلك لم يكن يتقي عقابا صارما مع صياح الديك… والروائي العربي او شهريار الذي تبادل الأدوار مع انثاه كتب عن المومس مثلا ولم تكتب هي حتي الان عن عالمها السّري، وكتب عن الأم، في الوقت الذي لم تكتب فيه الأمهات بعد ما يكفي لإنقاذهن من احتلال الرجل، وتقمّصاته، واسقاطاته!ان ما يدفعنا الي الاحتراز من ظاهرة تأنيث السّرد ليس تصدّي نساء لهذه المهمة العسيرة لأن بينهن من تفوقن علي زملائهن لكن بعد ان تفوقن علي انفسهن، والهواجس الثأرية، ما يدفعنا لمثل هذا الاحتراز هو الاسماء القليلة التي تطفو لخفّتها علي سطح المشهد الروائي، بحيث تقترن هذه الاسماء بوعود جنسوية، تدفع الناشرين الي تقديم أغلفة ذات ايحاءات جنسية، وامتثال الروائية لهذا النزوع الاستثماري لهن باعتبارهن نساء هو تكريس للاستلاب، ان لم يكن طبعة جديدة منقّحة بمساحيق التجميل للرق القديم.واذا اتفقنا علي ان النقيض الحقيقي للمرأة الحرة هو من صميم جنسها، اي من نساء أخريات عديمات الممانعة وليس الرّجل، فإن بامكاننا ان نذهب الي ما هو أبعد انطلاقا من الرؤية ذاتها فنقول مثلا ان نقيض الروائية المبدعة والمتجاوزة لشروطها هو تلك الرّوائية التي تعتقد ان الاستعراء واستعراض العوالم السرّية لاستدرار لعاب القاريء هو أقصر الطرق الي الشهرة وتحقيق خرافة ما يسمي الاكثر مبيعا…وهنا لا بد من الاعتراف بأن لكل حراك انساني سواء كان متعلقا بالرجل او المرأة، بالابيض او الأسود، أعراضا جانبية، وهي بمثابة الشّر الذي لا بد منه لكن حين يتحوّل الجانبي الي أساسي والعارض الي جوهر فإن المسألة كلّها تصبح منقلبة رأسا علي عقب!!!وقد يمر بعض الوقت قبل أن يمارس النقد غربلة هذا الركام الذي يتجاور فيه الجاد والمبتكر مع التقليدي والعابر، فحركة السّهم حول الدائرة لا تزال ترتهن لمعايير لا يمكن الارتكان اليها اذ غالبا ما تفرزها صحافة ثقافية ونقاد يوميون وقرّاء لا يزالون في طور القارئين!!ہہہان منطق الوصاية الذي مورس لعدة قرون علي المرأة لا ينافسه الا ذلك المنطق الأبوي الذي مارسه الاقطاعي ومالك أدوات الانتاج علي العاملين.وأول ما يفضي اليه منطق الوصاية هذا هو تحويل ما يتوهم الحالمون بأنه يوتوبيا الي دستوبيا تعجّ بالرذائل… ليس فقط لأن طريق الجحيم كما يقال معبّد بالنوايا الحسنة، بل لأن لكل طبقة مثقفيها والمبشرين بمنظومة قيمها وأخيرا الذائدين عن مصالحها !والعالم العربي الذي تخوض نساؤه حربا بمختلف الأسلحة ضد الاستلاب والتغريب وفقه الاقصاء أفرز نماذج نسوية يتعذّر علي أشد الذكور راديكالية جنسوية أن يتنكر لها، والكتابة من ضمن تلك الاسلحة ان لم تكن أمضاها وأجداها لأنها غير مرتهنة لحراك موسمي، سواء كان نقابيا او من أي طراز آخر…وما أنجزته المرأة العربية في حقول الابداع لا يوازيه علي الاطلاق ما أنجزته نقديا، لهذا فالنقد لا يزال ذكوريا بامتياز، وحين يصطنع الناقد موقفا يبدو فيه منحازا للمرأة وحراكها الاجتماعي والسياسي فهو في حقيقة الامر ليس كما يبدو، وكل ما يحتاجه هو كشط الفسيفساء كما يقول المثل عن الطين والجصّ، فالديدان تهجع هناك.وما يقال في العديد من المناسبات عن اتهام ذكور بالكتابة لإناث هو امتداد لرؤية قديمة كان الرجل يعتقد من خلالها ان المرأة ذات وظيفة محددة، وهو ما عبّر عنه د. مصطفي حجازي في كتابه المهم سايكولوجيا الانسان المقهور عندما قال ان المرأة عانت من الاختزال الشديد في المجتمعات المقهورة، فهي اختزلت من انسان الي انثي، ومن انثي الي عضو ومن العضو الي وظيفة!!ہہہبالعودة الي الراحل غالب هلسا صاحب الروائيون أذكر انني سمعت منه علي امتداد أعوام ما كان يكرره عن اوهام الكتابة، خصوصا فيما يتعلّق منها بالرواية. فالزمن بالنسبة لغالب ليس تقاويم متعاقبة بنظام، والعالم ليس متّسقا الي الحدّ الذي يدفعنا الي قبول خرافة التوازن، ولو قيّض لغالب الذي رحل في منتصف العقد السادس من عمره ان يعيش حتي أيامنا هذه لأحدث انقلابا في مفهوم الرّواية، لأن واقعيته من طراز آخر، يصدق عليها ما قاله غارودي في كتابه واقعية بلا ضفاف والكاتب الذي يخلع أوهامه ويدرّب عينيه علي التحديق حتي الي الفراغ السحيق، هو كاتب اشكالي بامتياز، لهذا كانت رؤيته للرواية والروائيين مستمدة اساسا من تأملات عميقة في تاريخ الكتابة، وتاريخ الصمت أيضا ! والمرادف النسائي لغالب هلسا، هو تلك الروائية العربية التي تتهيأ لكتابة رؤياها عن الروائيات لكن من خلال مقترب آخر، لأن شهرزاد المهددة بالذبح اذا خذلها اللسان قبل الفجر عليها ان تكتشف بعد قرون من الليالي الألف هذه الليلة الثانية او الثالثة، المضاءة بالكهرباء والتي يتقمّص فيها شهريار شخصية المثقف الليبرالي، الذي ينحاز الي المرأة والطفل والعامل… لكنه في حقيقة الأمر يحتاج الي فحص عيّنات من دورته الفكرية، ومجمل أطروحاته المتأنقة نظريا…لأن الطبع غالبا ما يطفو علي التطبّع ويعلو عليه!! لقد خرجت الروائية العربية من عباءة جدّتها التي تعهّدت السّرد بدءا من الليالي الألف حتي التنويمة…أما شهريار ناقدا، فهو يرتدي طاقية الاخفاء!QMK0