كُتب الكثير عن الشاعر بوصفه ناقدا، خصوصا في القرن العشرين الذي شهد تيارات حداثوية عديدة، منها ما كان صادما للحساسية السائدة والذائقة الاتباعية.
بحيث وجد الشعراء ان من صلب مهمتهم اصدار بيانات او ما يشبهها لتسويغ الجديد الذي اتوا به، رغم ان جذور هذه الظاهرة تمتد في الماضي، وعلى الاقل للفترة الرومانسية التي برز فيها الثالوث الانجليزي كيتس وكوليردج وشيلي، لكن الشاعر الناقد تجلى في الربع الاول من القرن الماضي وكان نموذجه ت.س. اليوت بدءا من مقالته عن المعادل الموضوعي وهي نقد من الداخل لمسرحية هاملت لشكسبير، لكن الروائيين نادرا ما اضطروا الى التنظير الجمالي، باستثناء ‘ما يتسرب خلال حوارات تجري معهم، فارنست همنغواي كان يَكتفي باختزال تجربته في عبارة واحدة هي : لا اكتب الا عمّا اعرف، وكان ابرز الكتّاب الوجوديين ومنهم سارتر وكامو قد اضافوا الى ابداعهم الروائي مقالات بها قدر فائق من الاستقصاء والنقد، هذا مع العلم ان ما قاله إليوت وهو ان مسودات الكتاب والشعراء هي اقصى نموذج يتجسد فيه النقد التطبيقي وذلك من خلال الاختيار والحذف انطبق عليه وقد تكون تعليقات ازرا باوند على قصيدة الأرض الخراب لإليوت نقدا جذريا لهذا اهدى اليوت قصيدته الى باوند واصفا اياه بالصّانع الأمهر.
والرواية الحديثة او ما سمي الرواية المضادة او اللارواية والتي كان من ابرز نماذجها الان روب غرييه، شهدت مواكبة نقدية مارسها الروائيون بجوار ابداعاتهم، رغم ان غرييه بالتحديد كان يرفض تصنيف رواياته ويكتفي بالقول: انها كما هي.’
**************
ما استوقفني منذ زمن في ممارسة الروائي للنقد كتاب بالغ العمق والاهمية لميشيل بوتور وهو بعنوان ‘بحوث في الرواية الجديدة’، وكان بوتور قد تحدث عن عبقرية المكان، والذي كرس له غاستون باشلار كتابين على الاقل ليوضح اهمية المكان في العمل الابداعي، اما الجديد والمضاد في اطروحة كتاب الرواية التي سماها سارتر اللارواية فهو باختصار حلول المكان في حيّز الزمان واكتشاف الاشياء التي تحولت الى ابطال بدلا من الشخوص كما في رواية الممحاة او البصّاص لروب غرييه، وبالطبع ثمة تأثر من هذا التيار بالفلسفة الظاهراتية او ‘الفينومونولوجيا’ خصوصا كتابات هوسرل.
ميشيل بوتور يجيب عن سؤال في حوار اجرته معه مجلة ‘تيل كويل’ وهوعن تعدّد نشاطاته في الكتابة رغم انه مصنّف نقديا كروائي بالقول: انه يتعذّر تحديدي ببساطة فذلك من حسن حظي، الا ان ذلك لا يكون مربكا الا لِناقد مُتعجّل او كسول والذي يكره ان يجد نفسه مرغما على اعادة القراءة وعلى التفكير’، وميشيل بوتور بدأ شاعرا في صباه لكنه اقلع عن كتابة الشعر كما يقول لسبب واحد هو انه يريد حشد طاقته الشعرية كلها في الرواية، ذلك لأنه وجد من خلال تجربته الشخصية ان الرواية هي الطريقة الوحيدة لحلًّ الصعوبات وتجاوزها خصوصا في فرنسا حيث يُقَسِّم التّقليد المدرسي المتصلب الادب الى عدة أنواع متباعدة، وهنا نتذكر ما كتبه بارت تعبيرا عن الكتابة العابرة لحدود الانواع او الكتابة في درجة الصفر.’
شعرية الرواية كما يرى بوتور ليست مجرد بقع هنا وهناك، انها تكمن في القوة الغريبة التي تمحو الأشياء الموجودة ويضرب مثلا بأثاث ومقتنيات الغرفة التي يكتب فيها ‘اذ سرعان ما تختفي هذه الأشياء كوجود واقعي، وتحل مكانها اشياء مُتخيّلة . ويستشهد بوتور بأندريه بريتون السوريالي وصاحب المانفستو الشهير عن السوريالية حيث يقول : يبدو لي ان الموقف الواقعي هو عدو لكل تقدم فكري او اخلاقي، اني اكرهه لأنه مصنوع من الاعتدال والحقد والاكتفاء المُسِفّ. ويتلخص هذا الموقف بما يسميه بذل الجهد الأدنى، الذي يفسر وفرة الروايات، وهو يلتقي مع اطروحة شهيرة لبول فاليري حين اقترح تأليف كتاب يضم اكبر عدد من المطالع التافهة للروايات الركيكة، ولأن معظم تلك الروايات تبدأ على طريقة: خرجت الماركيزة من منزلها في الساعة الخامسة.
****************
الرواية الكبرى هي التي ‘لا يحل مكانها شيء آخر، هذا ما يراه بوتور، لكن ذلك لا يحول دون الشعرية التي تتيح للروائي وهو يصغي الى الأشياء من حوله مُتَمتِمٌ بغموض ثم يقود هذه التمتمة لتصبح كلاما واضحا، فالروائي لا ينتظر الهاما من خارج العالم، بل من صميمه، وهذا ما عبر عنه البير كامو في اشارة الى الميثولوجيا بقوله : ان مملكتي من هذه الأرض، وشعرية الرواية مسألة اشكالية بسبب التفاوت الشديد في فهم الشعرية اساسا ‘وهذا ما اوضحه لورانس داريل حين قال عن اسلوبه الفريد في رباعية الاسكندرية: (اعرف ان نثري مزيج غريب ولكن جميع النثر المنتمي الى الاستمرارية الشعرية هو كذلك)، وقد جعلت هذه العبارة مدخلا لكتابي ‘صبي الاسرار’ وهو سيرة ذاتية لا تقع فيها الحوادث بشكل تتابعي ولكنها تتجمع هنا وهناك كالحياة الواقعية التي لا تخضع لأية تضاريس ثابتة، وقد يكون بوتور اكثر من اهتم بتوظيف الأثاث في السَرد الروائي لأن فلسفة الأثاث هي خطاب ترشح منه ايحاءات بالغة الدلالة رغم صمته، ومدخل بوتور الى الأثاث هو نصوص ترجمها بودلير لإدغار الن بو لكن الترجمة أُتلِفت بسبب خطأ مطبعي في اسم بودلير ذاته، والنموذج الذي يختاره للأثاث الروائي امريكي بامتياز حيث كما يرى لا شيء يؤذي نظر الفنان اكثر من تنظيم الاثاث في المنزل الأمريكي فهو يعكس بعدم التناغم والانسجام واقعا اجتماعيا وثقافيا، ويرى ان القوانين التي نحكم بموجبها على لوحة كافية للحكم على تنظيم الغرفة، وفلسفة الأثاث لم تعد حكرا على الفن او السّرد الروائي، بل اصبحت حفرية انثربولوجية كما قدمها كاتب باكستاني ليستدل من خلال فلسفة العمارة والأثاث بالتحديد على المزاج السياسي السائد، مستلهما بذلك قراءات انثربولوجية لآثار الحضارات حيث منها ما هو دائري ومتكهّف ويمتلىء بالأقواس كالحضارة الاسلامية ومنها ما هو لولبي وبلا نهاية كالزقورات البابلية.
****************
تفترض الرواية بدءا ثلاثة اقانيم هي المؤلف والقارىء والبطل، والبطل اما ان يستخدم معه ضمير الغائب او ضمير الأنا، وذلك ليس جزافا، فضمير الأنا يأخذنا الى الداخل، والى غرف سوداء تشبه تلك الغرف التي تُحَمّض فيها الأفلام، وكما يقول بوتور فإن التلاعب بالضمائر في الرواية هو الوسيلة الوحيدة التي لدينا للتمييز بين مستويات الوعي واللاوعي.’
قد يبدو ميشيل بوتور مستغرقا في مونولوج ويعبر عن تجربته الكتابية من الداخل، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالكاتب الذي اعتبر نفسه محظوظا لتعدد انماط الكتابة كما قال في حوار مجلة ‘تيل كويل’، يستطيع ان يكون هنا وهناك اي في داخل نصوصه وخارجها ما دام المبدع كما يصفه بوتور لديه من الخبز على الرّف ما يكفيه مئة عام !