السرد يخون الواقع حتما، يناقضه، يشاكسه، يصطنع له نصا خائنا، يمكن أن يكون هو النص الذي نتخيل كتابته، إذ يتحول إلى لعبة فائقة الخطورة في السخرية والتقويض والمغامرة، وافتراض أدوار ووظائف وسلالات وشخصيات، قد لا تكون موجودة في الواقع، لكنها أكثر مهارة في التعبير عن نفسها في الحكي، وفي صناعة واقع مضاد، يمكن أن أصدقه كثيرا وأنا أكتب، أعيش معه لحظات حميمة، ساخنة، استعيده مثل ذاكرة مليئة بالأشباح، وبالمخفي من «المسكوت عنه» وهذا ما عدت ألجأ إليه وأكتبه، لكي أعيش معه مفارقات وسرديات الحياة والسياسة والخوف، عبر تشبيك الواقع بلعبة السرد، السياسة، حيث يكون السرد هو المجس، واللعبة الخفية التي تجعلني أكثر تغوياً بالكتابة عنها. فهل تصلح كتابة اليوميات السياسية أنْ تكون فضاء للسرد؟ وهل يتقبل السرد أنْ يتحول إلى مجال لسردنة سرائر المخيال السياسي؟ وهل يمكن للبطل اليومي الذي يعاني من الإكراه والمطارة والخوف والقمع أن ينفر من الواقع، ليتحول إلى شخصية سردية، لها زمنها ومكانها ووظيفتها وصراعها ومخيالها؟
أظن أن هذه الأسئلة المتقاطعة، تفترض وجوداً وحياة ووقائع، لكي تنخرط في تلك اللعبة العصية، توريةً أو قصدا، وفي اتجاه أن تستكنه ما خفي من حمولات ما تُثيره السياسة من أسئلة، وتخيلات، أو إلى ما تحوزه من شفرات، ومن انساق خبيئة، وبما يجعل سردنة اليوميات السياسية وكأنها الأقرب إلى لعبة الاعتراف، أو محاولة في صناعة وظائف تمثيلية تُحرض على تعرية الواقع والحدث والتاريخ والأيديولوجيا، ولما هو غائر في اليومي والهامشي.
أحسب أن هذه الاندفاعات لا تتطلب براءة في الكتابة، بقدر ما تستدعي حيلا ومناورة، أو حتى كذباً لتمثيل تلك الوظائف المريبة، ولاستدعاء نمطٍ آخر من الكتابة الشخصانية والمتخيلة، التي تصطنع لها أحداثا ومفارقات وصراعات تعيشه شخصياتها، عبر الكشف عن وجودها في الصراع، وعن هويتها، وعن ضعفها ومزاجها، وأوهام قوتها، وعن طبيعة علاقتها بتلك الصراعات، أو أدوارها فيها، ونظرتها إليها، ليس بوصفها شخصيات واقعية أو متخيلة، بل لأنها شخصيات فاعلة في اللغة والخطاب وفي التمثيل السردي، ولأنها شخصيات أضحوية، فإنها مسكونة بهواجس الوعي القلق، والإحساس بالاغتراب والطرد، مقابل أنها حالمة، ومُغامِرة، بحكم وعيها الشقي، أيديولوجيا أو وجوديا، إذ تعيش عبر هذا الوعي مأزق علاقتها بالآخر الذي تُمثله السلطة، وهو ما يستدعي بالضرورة سرديات درامية تتجوهر حول الصراع، مثلما يستدعي وقائع تبرر وجودها الفائق والواهم في الشارع، وفي الحانة، أو في علاقتها الملتبسة مع العالم والأفكار..
الحدث السياسي والسرد
سردية الحدث السياسي افتراضية، ووجودها رهين بالشخصية التي تعيش هوس السؤال السياسي، أو التورط فيه، وبما يجعل علاقة الفعل السردي بالخطاب السياسي علاقة اشكالية تتبدى عبر أزمة الوعي، وعبر المواجهة، أو عبر الوظائف والمواقف والصراعات، حيث تحضر الأفكار الصاخبة، مثلما تحضر ثنائيات الوجود والغياب والطرد والهروب والتمرد والكراهية والحب والخداع، مقابل انكشافها على ماهو أضحوي في صراعاتها الرمزية مع العنف السلطوي، ومع روح الدكتاتور الواقعية والمتخيلة، حيث يتبدى الضعف الانساني، والخوف من الاعتقال والتغييب والموت، مقابل البحث عن اللذة عبر الجسد أو عبر اللغة، وبما يجعل لعبة السرد ذاتها وكأنها لعبة في النقائض، حيث تكون الكتابة شهادة، وحيث تتحول لعبة السرد إلى تمثيل تخيلي لهذه الشهادة، تتعدد فيها مناصات الاعتراف والبحث عن التعويض، أو عن سد الذرائع، عبر ابتكار الشخصية الدرامية التي تعيش صراعها مع النفس، ومع الآخر كما في رواية «الوشم» لعبد الرحمن الربيعي، أو ما يعيشه مهووسا بمأزقه الداخلي كما في رواية «قشور الباذنجان» لعبد الستار ناصر، أو ما يجده نوعا من الاغتراب الوجودي الذي يجعل شخصية بطله تعيش السجن، كما لو أنها تعيش عزلتها الوجودية كما في روايات فاضل العزاوي.
هذه الروايات تتجوهر حول شخصية البطل، الذي يعيشه أزمته السياسية، عبر الفشل أو عبر الاعتراف، أو عبر البحث عن التعويض، وهي في سياقها العام تبدو وكأنها ترميم إيهامي للذاكرة وللتاريخ، أو محاولة لاصطناع الشخصية التي تتعإلى على واقعها عبر اللغة، بوصفه مجالا للتخيل والكذب والتوهم والسكن، لذا يبدو الحديث عن «رواية السياسة» قريبا من الحديث عن رواية الشخصية التي تعيش رهاب تلك السياسة، عبر أحداثها وصراعاتها وتحولاتها وحساسيتها، كما أن خطاب الحكي في السياسة يستدعي كثيرا من «اللعب» ليس بالمعنى التعبيري حسب، بل بالمعنى الدلالي أيضا، حيث يمارس الروائي بحثه عن المُضمر في الحكايات، وعن المعاني المحذوفة في تأويلاتها، وعن علاقة الشخصية الروائية بما يتبدى في الحدث، وفي خطاب السلطة، فضلا عما يتبدى في واقع الصراع من تجليات، أو من خسائر وأضحيات، لاسيما وأن « الرواية السياسية» في العراق ليست رواية تاريخ، بقدر ما هي رواية اعتراف تقوم به شخصية المؤلف، أو البطل، المُرحلة من الأيديولوجيا والمجال الحزبي/ الثوري إلى المقهى والحانة والسجن، التي تستدعي بالضرورة تجسد صور المتلصص، والمجنون والسجّان والضحية.
مقاربة موضوعات السياسة في السرد، تعتمد على ما يتوافر من طاقة استفزازية للحكي، ومن شهوة للتخيل، فأغلب روايات احمد خلف تمور بهواجس البطل اللامتني، بوصفه اللاسياسي، لكنه الذي يعيش السياسة عبر علاقته مع أصدقاء شيوعيين وقوميين، ولا يجد في عوالمهم الطاردة سوى ما يدفعه للحديث عن السياسي الخائب والمهزوم، الذي يستدعي بالمقابل لعبة الكتابة عن السفر والغياب والشبق والخوف والقوة، بوصفها عوالم تعويضية، وربما إيهامية، تجعل من الجنس تعويضا سياسيا، ومن السجن طوقا، ومن وعي الحرية المعطوبة مجالا دلاليا للرؤيا، ولقراءة المضمر، ولاستكناه ما هو طلسمي، وللانحياز إلى الخُدع التي تفترض المخاتلة والمناورة، بحثا عن وظائف متعددة فيها من الحركة والانتقال والمخاتلة، والمناورة، مثل ما فيها من الأفعال الحكائية التي تخص الرحيل والمنع والخرق والاطلاع والطرد والمنح والغياب والعودة والمطاردة وغيرها، وهي وظائف لا تنتمي إلى فضاء الحكاية العجيبة، كما أرادها فلاديمير بروب فقط، بل تنتمي إلى كل ما تستدعيه لعبة السرد، حيث تحول الأشياء وخرقها وسحرها، والتي تمس الشخصية بوصفها كائنات تمثيلية، وأن لها وجودا ورقيا في اللغة كما يسميها رولان بارت، وموجودات اللغة هي الأكثر براعة في أداء وظائف التمثيل والتأويل والخداع والخيانة..
سردية الاغتراب في السياسة وجهٌ من وجوه سرديات الكتابة الروائية العراقية، فأغلب شخصيات الروايات تعيش هذا الاغتراب قلقا وخوفا وضياعا وهروبا، وهذا ما يجعل الرواية السياسية، هي الأكثر تمثيلا لهذا الاغتراب عبر إشكالية شخصيتها، أو عبر قلقها وشكوكها، أو عبر حدود علاقتها التمثيلية باللغة وبالواقع.
الفعل الوظائفي في السرد ليس بريئا، فهو يرتبط بطبيعة الشخصية الساردة، أو التي تعيش السرد بوصفه «هابيتوسا» في يوميات الحب والصراع والسياسة، بوصف السياسة – هنا- مجالا إشكالياً للوعي والالتزام، مقابل أنه مجال للتورية والكذب والاستعراض والتبرير، أو لاصطناع البطل «المنتمي» أو «المُخلص» أو الصورة التي تعيشها الشخصية المتعالية، مقابل التوهم بوجود الجمهور/ القراء/ المريدين الذين يتماهون مع هذه اللعبة التمثيلية، ومع الاشتغالات السردية الغرائبية لذلك البطل، ومع تسويغه للبطولة والصراع، ولما يعيشه من نقائض وخيبات، وكذلك لما يؤمن به من أفكار أو أوهام، أولمحاولاته في أنسنة الوجود من خلال القوة أو الضعف، إذ هو بطلها وضحيتها، مثلما هو مجالها الرمزي في تحويل تلك الشخصية إلى قناع له قوة الفعل السردي، أو له شراهة الكذب على الآخرين، أو ممارسة الاعتراف الحر، الذي يجعله أكثر تحررا في التخيل وفي الحكي، وفي تمثيل وقائعه وعذاباته، وأن القيام بالفعل السردي هو تمثيل شرطي لتسويغ فعل التدوين، وللكشف عما تعيشه الأنا المؤلفة، فهي غير بعيدة عن تمثيل طاقة السرد وتخيلاته، حيث تخون من خلاله الواقع، وحيث تستدعي لمساحة السرد الخائن، كائنات واقعية أو تاريخية أو أسطورية وميثولوجية كرست وجودها في الحياة، أو عبر سرديات الذاكرة الطويلة، وعبر يوميات وقراءات وذاكرة ومرويات استغرقتنا، وتحولت إلى لعبة مفتوحة للمناورة ولتدوين متخيل لحكاية المحذوف من بطولاتنا وخيباتنا وحروبنا وهزائمنا واغتراباتنا..
الرواية وسردية الاغتراب
سردية الاغتراب في السياسة وجهٌ من وجوه سرديات الكتابة الروائية العراقية، فأغلب شخصيات الروايات تعيش هذا الاغتراب قلقا وخوفا وضياعا وهروبا، وهذا ما يجعل الرواية السياسية، هي الأكثر تمثيلا لهذا الاغتراب عبر إشكالية شخصيتها، أو عبر قلقها وشكوكها، أو عبر حدود علاقتها التمثيلية باللغة وبالواقع، أوعلاقتها بالأيديولوجيا والتاريخ، وربما عبر تسويغ علاقة افتراضية أو متخيلة لما يقترحه وعي شائه ومضطرب، ومشبوك بأسئلة كبرى، وسرديات كبرى، وهو ما يعني إعطاء الروائي تفويضا لتدوين أزمته، أزمة علاقته المضطربة بالسياسة، أزمة خيبته إزاء الشعارات، أزمته مع السجن والجنس، ومع مفاهيم الثورة والحرية والأيديولوجيا، فتاريخ الرواية العراقية قريب جدا من هذه الأزمات، ومن ذاكرة العنف السياسي، بحكم المرجعيات المهيمنة للخطاب الحزبي والثوري في الثقافة العراقية، وهذا ما يجعلها تميل إلى صناعة البطل المتفلسف والغاوي والمتحذلق، الذي يحمل ولو سرا بعض هواجس السياسة بوصفها وعيا قلقاً، التي تتسرب كثير من شيفراتها من المعرفة والفلسفة، أو من الأيديولوجيا، لكن كل ذلك يظل رهينا بتقانات تمثيلها السردي، لاسيما وأن الاغتراب من أكثر الثيمات التي اشتغل عليها الفلاسفة والمفكرون والروائيون وصناع الأدلجات والمناهج وأفكار الاختلاف مثل، هيغل وماركس وهوبز وغرامشي وهيدغر وسارتر وجيل دولوز وهابرماس وسلافوي جيجك وألن باديو وغيرهم، بحثا عن تقعيدٍ لأفكارهم ولسردياتهم، ولنظراتهم للوجود والحرية، ولما تُثيره تلك الأفكار والسرديات من أسئلة كبرى..
في الظل من السياسة يبدو الحكي مواربا، أو أنه يخفي قلق البطل، أو حلمه، فهو مطارد، أو يعيش هواجس المطاردة، واغترابه ليس اغترابا فلسفيا بالمعنى الماركسي، بل هو اغتراب وجودي، له لبوس سياسية وأيديولوجية، وهو ما يعني جعل الكتابة وكأنها تمثيل لوعيه القلق، الوعي الذي يصطخب بالأسئلة، وربما بهواجس البحث عن الحرية، واللذة والإشباع، وعلى نحوٍ هو الأقرب إلى إبراز مظاهر سرديات العنف الفلسفي، عنف الأفكار، ومتاهة الشخصيات، فضلا عن كونه رهانا كبيرا على تفسير معنى للحياة، عبر شخصياتها المضطربة، حيث شخصية العاشق والسجين والثائر والمثقف والحالم، وحيث ارتباط تاريخ هذه الشخصيات بالهزائم السياسية، بوصفها خسائر وطنية أو خسائر عقائدية، أو حتى خسائر عاطفية، إذ يتدفق الكلام عنها بنوع من الشغف والتمرد والاحتجاج، حيث يناور السارد مخاتلة أو خداعا، يصطنع له خيالا لا حدود له، وأبطالا يجوبون الأمكنة والأزمنة والتاريخ، يعيشون فرادتهم بتعالٍ أو بخذلان، لكنهم يمارسون وجودهم عبر طقوس الكتابة والشهادة وجر المواقيت إلى لحظاتهم الفائقة..
كاتب عراقي