يدفعنا الحديث عن الرواية العراقية الجديدة إلى توصيف متغيراتها الأسلوبية والثيمية، وإلى البحث عن مرجعيات المُختلف في خطابها السردي، على مستوى تقاناتها الجديدة، وعلى مستوى تمثلاتها للأفكار، أو لمقاربة الأحداث السياسية والاجتماعية، ولكلّ ما يتعالق بها من قضايا إشكالية تخصّ علاقة الرواية بالتاريخ، وعلاقة الرواية بالهوية، فضلا عن استغوارها لـ«المقموع والمسكوت عنه» في الزمن السياسي العراقي، وانعكاساته على التحوّل في هوية المكان الدوستوبي، وعلى التحوّل في تشكيل سمات الشخصية، المسكونة بتداعيات الزمن النفسي، وتمثلاته عبر مظاهر المنفى والعزل والحرب والهوية ـ القاتلة والمقتولة – وعبر استدعاء كثير من «المتخيّل التاريخي» كمجال لتسويغ تشكلات السرد، بوصفه تمثيلا لوعي تاريخ الصراعات التي لا تنفصل عن صراع المركزيات والأدلجات، والعلاقة مع الآخر، ولترسيم علاقة افتراضية مع الواقع وصراعاته الوجودية..
روايات خضير فليح الزيدي وحميد الربيعي تقترح لنا مشاهد للسردية الضد، حيث الاحتفاء بالسردي على حساب التاريخي، والمسكوت عنه على حساب «الظاهر» وهذا ما يجعلها أكثر مقاربة لـ(الحساسية المفارقة) في السردية العراقية، حيث انخراطها في التعبير عن الممنوع والمقموع، وعن سردنة الهامشي، والسري والغائب، عبر إعادة توجيه الوظيفة السردية لتكون أكثر جرأة في استدعاء ذلك «المخفي» بوصفه جزءا من سرديات الجماعة، وسرديات الانتهاك، وسرديات الغياب، ما يجعل حساسيتها أكثر إثارة، وأكثر مفارقة في التعبير عن الواقع العراقي المُلتبس تاريخيا وسياسيا و»حكائيا» وفي اتجاهٍ يجعلها تتجاوز ذلك الواقع إلى ما يشبه سحريته، وتجاوز الصوت الواحد/ الراوي العليم إلى الفضاء البوليفوني، وكذلك تجاوز النمط السردي إلى ما بعد السرد، حيث استدعاء الوثيقة والحكاية والمجاورة السردية والراوي المجاور والشاهد..
تقانة ما بعد السرد وضعت توصيف الرواية في سياق موت (المركز التأليفي) لتوحي لنا بوجود مستويات أخرى للتأليف السردي، عبر إعادة توصيف فكرة المؤلف الصانع، الذي يجمع وظائف الشاهد والحكواتي والمؤول والمراقب، وهي وظائف مركبة تضع الأحداث والشخصيات في المختبر السردي أكثر من تموضعها في الواقع، فتُعطي للرواية، بوصفها «لعبة سردية» أفقا يتسع لما هو فلسفي ومعرفي وتخيّلي، حيث ترسم لنا تشكّلات سردية غائرة، يتفجر فيها المُغيّب من «الأحداث» والثيمات التي تصطخب من خلال استنفار وظيفة «المتخيّل السردي» لتؤدي وظائفه عبر شخصيات مُهرّبة من التاريخ، فتعيش محنة هذا الهروب، مأزومة، مُنتهكة، متمردة، مهزومة، تسحبه إلى حيث زمنها العراقي، باسئلته الفاجعة، وشيفراته الحاملة لأزمات الوجود، تلك التي يتكشف السري والمهمل والغرائبي، فيحضر «المؤلف الضد» عبر أقنعة، وعبر رؤى، يتجاوز فيها عقدة الذات المستلبة الخائفة، إلى ما يشبه استعارة قناع كاتب الاعتراف/ التطهير/ السيرة، أو حتى كاتب نص الاغتراب بمفهومه الفلسفي، حيث تتسردن الغربنة الشخصية بوصفها تمثيلا للاغتراب الوجودي الذي تعيشه الشخصيات، وتمثيلا لعلاقتها الملتبسة مع الهوية والجسد والأيديولوجيا والمنفى والآخر، وهذا ما نجده في تشظي المساحات السردية، على مستوى استدعاء المفارقة في الواقعية، عبر تسحيرها أو تغريبها، أو على مستوى استدعاء التعدد الصوتي بوصفه البنائي، أو بوصفه التقني، أو اللساني، بوصفها الفيللوجي، أو على مستوى توظيف الوسائط كفواعل في تنشيط البنى السردية في الرواية، كتقانة السينما/ عين الكاميرا والسيناريو، وتقانة الحلم والتخيّل التاريخي..
تعدد الأصوات في المساحة السردية للرواية، تعني تعدد استخدام الضمائر، وهي موضوعة تحتاج إلى مهارة في ترسيم علاقة هذه الضمائر بمستويات الحكي، وعبر ترسيم علاقتها بالزمن، وعبر تأطير فاعلية التنافذ بين أدوات السرد والقارئ، حيث تتعالق بالوظائف التي تفترضها أطروحات القراءة والتلقي والتفاعل، والتي يمكن أن نعدّها (السبيل الوحيد الذي نملكه، والذي به نميّز المستويات العديدة للوعي، أو للكمون الذي يركب كل واحد منها، ويموضعها ضمن الأخر وضمننا) كما يقول ميشيل بوتور، كما أن هذا التنوع في الأصوات والضمائر، يعمل على تنشيط الفعل اللغوي بوصفه فعلا توصيفيا، أو فعلا للحكي، مثلما أنه يُسهم في التقليل من نرجسية الراوي/ السرد، إذ كثيرا ما يلجأ الروائي إلى هذه التقانة، للاختباء خلف صوت سردي معين، أو حتى تمرير بعض الأفكار والأكاذيب من خلال لعبته في التورية..
رواية اللامركز
تبدأ هذه الرواية من تفكيك البنية المركزية في سياق الرواية، على مستوى الراوي الكلي، والزمن الكلي، وحتى المكان الكلي، فالبطل/ الراوي/ السارد هو وحدة من وحدات مُركّب البناء، وأنّ وظيفته تتعدد وتتشظى مع تعدد الأصوات، ومستويات الحكي، مع تنوع المنظورات إلى الزمن/ أي إعادة صياغة مفاهيم التبئير ووجهة النظر لتكون متسقة مع الصوت السردي، ومع فعاليتها في الزمن.. البطل في هذه الرواية ليس خارقا، ولا أسطوريا، بل هو الأقرب إلى البطل المضاد، أو الهامشي، أو المطارد، والمراقب. هذه التوصيفات تُجرّده من مركزيته القديمة، لتجعله قريبا من فكرة البطل اليومي، القلق المشغول بأسئلة وجودية مفارقة، تجعل من ضديته نظيرا لـ»لا نرجسيته» وتجعل من ضميره السردي موزعا بين أصوات «الأنا» والـ»هو» و الـ»أنت» وكأن هذا التوزع الضمائري هو توزع وظيفي، فضلا عن توزعه النفسي الذي يقوم على وظائف الحركة والاعتراف والبوح، وعلى استدعاء المخفي، وصولا إلى فضح ما تُخفيه الأنثروبولوجيا العراقية المسكونة بتابوات غائرة في الذاكرة والمكان والهوية وفي العلاقات..
رواية خضير فليح الزيدي «فاليوم 10» أنموذج لهذه السردية، إذ تنحاز إلى توظيف الوثيقة بوصفه نصا ضديا، وإلى توظيف (سردية) الشخصية، عبر الكشف عن تحولاتها الفارقة في الواقع العراقي، وفي مقاربة محنة يومياتها، بوصفها شخصيات أضحوية، فأبطال الرواية يدون وكأنهم شهود أو مراقبون، أو يؤدون وظائف الضحايا، الهامشيين، المطاردين، حيث يعيشون رعب الصراع السياسي- الانقلابات، الاستبداد، القمع، الاغتراب، النفي- مثلما يعيشون قلق الفقد الوجودي والهوياتي والنفسي، ويمكن أن نعدَّ محاولة المخرج الصحافي سلام، في اصطناع المشهد/ الصورة تعبيرا عن هذا الفقد، وتقصيا للتحولات التي عاشتها تلك الشخصية، حيث تفقد إيقاعها حين تتورط بمعايشة المحنة عبر محنة أخيه، الذي فقد صوته بسبب أحداث الموصل عام 2014، وعبر محنة ما يواجهه من مفارقات تتكشف أمامه، من خلال العوالم السرية التي تتسرب من الحيوات العراقية، وهي تعيش تشوهاتها في الهامش المكاني كالبتاوين والباب الشرقي، وعند باعة الحبوب المخدرة..
الرواية تعالج حدثا واقعيا، لكنه يبدو واقعا سحريا في لعبة السرد، فبقدر انفتاحه على يوميات الوقائع العراقية، بعد الاحتلال، فإنه يكشف عن علاقة تلك الواقعية بأزمة وجود شخصياته، تلك التي تعيش سلسلة من الانتهاكات النفسية والاجتماعية، وحتى السياسية، إذ تكون هذه الانتهاكات هي النظير الضدي للانتهاك الوجودي، الذي عاشه العراق ما بعد الاحتلال وحروب السرديات الصغرى، إذ تتفاضح شخصياته عبر ما ينكشف من قلقها، وعبر هزائمها وخذلانها، إذ تعيش أزمات البلاد بوصفها أزماتها الوجودية، مثلما تعيش انكسارها في الحرب، وكأنه انكسار لعلاقتها بالمكان والهوية والتاريخ.
في رواية حميد الربيعي يتعرّى الواقع، عن واقع آخر، هو واقع الشخصية المأزومة، التي تقوم بوظائف ضدية، حيث تدوين سيرتها، بوصفها كناية عن سيرة المدونة العراقية، كون هذه الشخصية هي براديغم البطولة الضد، وضحيتها في الآن نفسه.. تتبدى سيرة هذه الشخصية من خلال زمن عراقي يصمم تفاصيله الروائي حميد الربيعي، إذ تكون الشخصية الرائية مسكونة بالأسفار الأسطورية والتاريخية وبأحداثها الكبرى، فيجعلها واسطته السردية للكشف عن الأزمة الوجودية للإنسان والمكان، فيجعل من كتاب «العهد الجديد» ومن مرويات ابن الأثير والخطيب البغدادي، وحتى من السرد التصويري في جدارية جواد سليم مجالا لسردنة حكاية «المدينة العراقية» فهي مدينة حرب ومطاردة ونفي أكثر من كونها مدينة سياحية، تتغير ملامحها حسبما تصنعه الحرب لها من محوٍ ومن فقد أو حضور طارئ « لا توجد خريطة سياحية فهي دائما ما تتغير، أنا رميت تسع عشرة خريطة عنها» مثلما هي مدينة جعلتها الحرب غارقة بمفارقات الموت والحياة والمتاهة، وبالأشباح ومظاهر الخراب توحي بهواجس الحرب الدائمة، حيث «يتصاعد منها الدخان، مع أكوام من الخردة، هياكل عربات قديمة، أبواب مخلوعة، أسقف منهارة وأسياخ حديد طويلة وملتوية».
حاولت رواية حميد الربيعي ربط المتخيل الواقعي بالمتخيّل التاريخي، عبر مناظرة تأليفية بين كتاب الربيعي «أحمر حانة» وكتاب «الكامل» لابن الأثير، فكلاهما يستعيد مدونات الحرب والقتل والموت، مثلما يكشف عن يوميات المدينة المفجوعة والمنتهكة، عبر فجائعية شخصياتها، وغرائبية ما يشاهدونه من خراب، ومن تحوّل مُفزع، فتبدو لعبة التخيل عند أهل الكهف بعد هروب الأخ دانيال من المدينة مفزوعا ليعود إلى الكهف أشد غرابة، تجعله يندفع هاربا من الدوستوبيا إلى اليوتوبيا..
ثيمة الهروب تكشف عن أزمة المكان، وعن أزمة الشخصية، وعن أزمة السلطة، وكلّ هذه الأزمات تصنع سردياتها التي تقوم على لعبة ملاحقة المصائر، وفضح ما يخفيه السردي عن التاريخي، حيث تتحول لعبة الإخفاء إلى كناية إلى ما يجري في الواقع العراقي خلال الاستبداد والغزو والاحتلال، وهي مجريات تجعل السرد أكثر مواربة للتاريخ الحافل بسرديات قاتلة، وبشخصيات مأزومة، وبمتاهات تدفع القارئ إلى استكناه ذلك المخفي، ليس بحثا عن السر، بل للتعرّف على سيرة القاتل المخبوء في التاريخ، الذي يناظره قاتل آخر مخبوء في الواقع، وأحسب أن هذه اللعبة السردية أعطت لحميد الربيعي شغفه في اصطناع قارئ غامض، لكنه مهجوس بالملاحقة، وتتبع الأحداث والشخصيات وهي تتنقل بين وجودها في التاريخ، ووجودها في مدونة الربيعي السردية..
كاتب عراقي