الرواية العربية… التطهير والسرديات النفسية

قد تحمل القراءة النفسية للعمل الروائي حافزا مثيرا للفضول والغواية، وللتعّرف على الغموض في ثيمتها وأسرارها، لكنها ستبدو أكثر إثارة عبر استدراج القارئ إلى التفاعل مع أحداثها، وإلى الكشف عن علاقة هذه الإثارة بأزمة شخصياتها، وبالمسكوت عنه، والمخبوء في أنساقها المضمرة، إذ ستكون هذه القراءة غير قياسية، وباعثة على الاستغراق في عوالم النكوص النفسي والوسواس القهري والقلق والاكتئاب والفصام، واستيهامات أطروحات فرويد عن اللاشعور، وعن عقدة الذنب وقتل الأب الرمزي وغيرها، وليس الاكتفاء بما يتعلّق بالبناء والأسلوب والصياغة، وهذا ما يجعلها أمام توظيف أدوات خارج اشتراطات لعبة السرد، والنظر إلى الشخصية الروائية بوصفها «شخصية عيادية» وأن الناقد/ القارئ سيكون أمام استدعاء قاموسي للتعرّف على مفردات وأطروحات علم النفس، بهدف استكناه حمولاته الرمزية والنفسية الاجتماعية.
يمكن للقراءة النفسية أن تكون خيارا للتجديد، ولتوظيف ما هو سياقي في ما هو نسقي، من خلال التوظيف التجريبي لأطروحات علم النفس، ومقاربتها لما يحدث في السرديات الروائية، ولشخصياتها المضطربة التي تعيش عقد الأصل، والخطيئة والفحولة والهزيمة والإحباط والفشل، والتي تستدعي من الروائي القيام بتوظيف تجريبي وسيميائي يُغذّي الممارسة النقدية، ويجعلها أكثر اندفاعا للتعاطي مع الأفكار والصراعات، مثلما تستدعي التعاطي مع الاحالات الفلسفية، ومع مفاهيمها الجاذبة، التي تتوظف داخل المشغل السردي، من خلال ما تُنتجه من صور ذهنية، حول الثيم الصراعية، وحول الأحداث الغامضة، والصراعات الاجتماعية والنفسية، حيث تعيش تداعياتها شخصيات مأزومة ومضطربة وشكاكة، تؤدي وظائف تمثيلية لأزماتها النفسية، ولما تعانيه من مظاهر الحرمان العاطفي أو الجنسي أو الاجتماعي، أو عبر أزمة انتهاكها الرمزي أو السياسي..

المرجعية الفرويدية للأزمة النفسية تضع السارد/ المؤلف أمام مقاربة إشكالية تجريبية، وعلمية، إذ يتطلب توظيفها مهارة وخبرة في مقاربة الفكر العيادي الفرويدي، وتوظيفه في سياق بناء الحدث، وبناء الشخصية، وباتجاه يجعله أكثر تمثيلا لمظاهر اللاوعي المحبط، عبر مشاعر العبث واللاجدوى والخواء الذي تعيشها تلك الشخصية، على مستوى التعبير عن فشلها السياسي والأيديولوجي والجنسي، وعلى مستوى التعبير عن طبيعة علاقتها بالسلطة وبمظاهر العنف والانتهاك والمطاردة والإخصاء والسجن والقهر النفسي، إذ تتحول تلك المستويات إلى مجالات تمثيلية لسردنة وقائع التاريخ العربي، من خلال يوميات الهزائم والانكسارات القومية الأيديولوجية والثورية، أو من خلال يوميات مشافي الأمراض النفسية وعوالمها الغامضة، وخفايا السجن السياسي العربي وانهيار السجين في «زنزاناته أو مطموراته» تحت ضواغط التعذيب والإخصاء والقتل الرمزي، وبما يجعل شخصيات المريض والسجين تعيشان وعيا مضطربا مسكونا برهاب وجودهما، ومستغرقا في استبطان عقد الذنب والخطيئة والخيانة، وعلى نحو يجعل البحث عن الخلاص والاعتراف، أو عن التطهير، وكأنه بحث عن إشباع رمزي، أو عن رغبة تتصدى لواقعهما المخذول، وعيشهما المتناقض بين أزمات النشوز والنكوص والانسحاب، والعزل والهروب إلى الاعتراف، أو بين الانتحار أو مساكنة معاناتهما في الخوف، وفي الكوابيس والهلاوس التي تعكس اضطرابهما النفسي واللغوي..

أحسب أن كثيرا من الروايات العربية تحفل بمثل هذه الشخصيات، بوصفها أقنعة لإدانة الواقع والمجتمع والذات والأيديولوجيا والمؤسسة والمدينة، فضلا عن كونها كناية عن تمثلات رهابية للواقع العربي وتراجيدياته السياسية والأيديولوجية، وحروبه واستبداده وقهره النفسي، ولعل روايات مثل «السراب» و«النظارة السوداء» و«بئر الحرمان» و«الوشم» و«الفيل الأزرق» وغيرها، تكشف عن أزمة الشخصية السايكوباثية، وعن عقدها الاضطهادية، وعما تحفل به عوالمها من عقد وصراعات لها أعراضها واستغراقها النفسي عبر سلوكيات انسحابية للعنف والكراهية والإحباط والعجز، فلا يجد الروائي سوى أن يجعل من روايته «مجالا تمثيليا» للتعبير عن تلك الأفكار، وتشبيك عالمه السردي بعوالمها الصراعية، عبر الكشف عما يتخفّى من شيفرات و«انساق مضمرة» وبهدف تحويل الثيمة النفسية وأعراضها إلى ثيمة سردية، لها حمولتها الرمزية والدلالية والسياسية، فضلا عن حمولتها السردية في التخيل، وفي تمثيل الحدث وتحولاتها، وفي تغذية البناء التكويني للرواية..

العنف وأزمة الشخصية

تكشف حالات التأزم التي تعيشها الشخصية الروائية عن مظاهر وعيها المضطرب، وعن أزمتها مع الواقع، وفي علاقتها بالآخرين، إذ يتحول الآخر بحمولاته المتعددة إلى مصدر للكراهية، أو الحب والرغبة، أو إلى الغيرة والحسد، وكلها مشاعر صراعية متناقضة، لكن أخطرها ما يتوارى خلف ما تعيشه الشخصية المُنتهَكة، وما تحاول أن تعترف به عبر هروبها وانسحابها، فيتحول الصراع النفسي داخلها إلى عنف رمزي، له تبدياته المازوخية، وله مكبوتاته، التي سرعان ما تنفجر، لتتحول تشظياتها إلى إحالات نفسية، وإلى مظاهر لتمثيل الشخصية المأزومة/ المُعذّبة والمُحبَطة، وباتجاه يجعلها تعيش وجودها على شكل صراع، يدفعها للتمرد، وللتقاطع مع الآخرين، ليس بوصفهم «الجحيم» كما سماهم سارتر، بل بوصفهم يمثلون أشكال الهيمنة على الواقع والذاكرة، وربما على الأيديولوجيا، وكلهم يدفعون إلى التماهي عبر الانهيار والانتهاك إلى الاعتراف، فما سردنه نجيب محفوظ في رواية مثل «الكرنك» يكشف عن أزمة المصائر المتقاطعة بين البطل والبطل الضد، بين الخيانة والحب، وعلى نحو يجعل السقوط الجنسي ترميزا للسقوط السياسي، أو ترميزا لسقوط «الزمن السياسي» مثلما يجعل من الإحساس بالهزيمة ـ السياسية والأيديولوجية وحتى الجنسية ـ كناية عن الرثاثة في مواجهة المحنة.

كتابة أدبيات الحرب لا تختلف كثيرا عن أدبيات الهزائم السياسية، فما تركه «الأدب الحزيراني» من أثر تمثل الجرح النرجسي العربي، من خلال عدد كبير من الروايات، بعضها تحدث عن هزيمة التاريخ، وعن العجز الأيديولوجي والفكر القومي واليساري، لكن بعضا آخر تحدث عن أزمة الشخصية العربية، بوصفها ضحية للسلطة وللسرديات الكبرى ـ الاشتراكية والقومية والدينية ـ فبدت وكأنها تعيش رهابا وجوديا، إزاء هواجس الجنس والسياسة، وإزاء العلاقة مع الآخر، لكنها تمارس صخبها الوجودي عبر اللغة، إذ تتحول هذه اللغة إلى مجال سحري، والى طقوس للاعتراف، وللتعويض عن فحولة معطوبة، فروايات مثل «الحب في زمن المطر» لنجيب محفوظ، و«67» لصنع الله إبراهيم ـ مثلا ـ يفضحان مرارة الهزيمة، وتحويل السقوط الجنسي مشغلا لتعرية السلطة، وللخواء، وبما يجعل من الإحالات الجنسية وإسقاطاتها الرمزية أشباحا للتعويض الاقتصادي، ولإيقاظ الجسد المخذول، وتعرية بعض الشخصيات من خلال تورطها في علاقات متوترة، تتكشف من خلالها مظاهر العبث واللاجدوى واللامبالاة.
العنف النفسي والعنف الجنسي، وحتى العنف الطبقي والأيديولوجي مظاهر مفارقة للتحوّل الاقتصادي والاجتماعي، فسرديات الرواية تفضح الأنساق المضمرة لهذا العنف المركب، من خلال إحالات نفسية ومواقف تبدو ضاجة بحساسيتها وانفعالاتها، والتي تنعكس فيها مظاهر حادة وغرائبية للتأزم، وللانهيار الذي يُفضي إلى خيارات مفرطة في عزلتها، أو في نزوعها للعنف المضاد والقسوة المازوخية، كما في رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، حيث يتحول الانهيار إلى قتل رمزي للجسد، وإلى عطب وجودي، وإلى خيانة أخلاقية يقوم بها البطل «رجب» عبر تحوله إلى عين للسلطة على رفاقه، كما نجد في رواية «الوشم» لعبد الرحمن الربيعي تمثيلا سرديا للانكسار الوجودي للشخصية، وانغمارا مفرطا في الهذيان عن «أزمة الذات» والذهاب إلى الجنس كإيهام تعويضي للعطب الذي عاشه جراء ما عاناه من عنف في السجن.

الهوية والسرد والتطهير

تبدو كتابة الرواية الأقرب إلى التماهي مع فكرة التطهير، فتبدو وكأنها شهادة أو خطاب في الخلاص السردي، وفي تمثيل التاريخ عبر اصطناع وجود له ديناميته، وتخيلاته، وتأويلاته، سماه بول ريكور بـ«الهوية السردية» يكون السرد فيه هو الفاعلية المولدة، التي توفّر التمثيل النفسي للذات، وللجماعة، والتحقق عبر ما يتعزز من وظائف يكتسب فيها السارد/ المؤلف قوة ضافية تجعله يُعيد النظر بكثير من أحداث التاريخ، وأساطيره، عبر فاعليات المعالجة السردي، فتبدو تلك «الهوية المتخيلة» وكأنها وسيلة أو أداة فاعلة في تمثيل الشخصية السردية، من خلال وظائفها في الحكي والتأليف والاعتراف وصناعة البطولة أو الخذلان، فضلا عن وظيفتها في جعل «الحياة البشرية تغدو أكثر قابلية للفهم والإدراك، حين يتم تأويلها في ضوء القصص التي يرويها الناس عنها، كما أن محكيات الحياة بدورها تصير قابلة لأن تفهم عندما يطبق عليها الإنسان النماذج السردية المستمدة من التاريخ والخيال» (إدريس الخضراوي/ وتحملني حيرتي وظنوني/ بناء الهوية السردية ـ ضفة ثالثة 2022).
ما يرويه الناس يتحول إلى قوة نفسية تتمثل فكرة الخلاص، عبر التماهي مع ما يصطنعه الحكواتيون من التخيلات والبطولات، وعبر تعيين تلك الهوية في فاعلية وظائفها المتعددة، وفي أثرها على إعادة صياغة مفهوم «الذات» و«الآخر» من خلال التعرّف على علاقة السرديات بتمثلات الصراع النفسية، وعبر تحولها إلى تمثيلات لغوية ـ قصص وحكايات ـ وإلى وسائل قد تستثمرها السلطة، أو الجماعة لصناعة أشكال الاستبداد والخوف والهيمنة الطاعة، أو قد يستثمرها الروائي لكتابة نصه التطهيري، أو سيرته المتخيلة، باحثا من خلالها عن «عشب الخلود» أو ترياق الشفاء، أو تعويذة الخلاص، أو رقية التطهّر من الشياطين والأشباح.. يكتسب التطهير النفسي عبر السرد حساسية تنقض كثيرا من أطروحات فرويد في الكبت، وفي اللاشعور المأزوم، إذ يتحول السرير العيادي إلى نص أو خطاب، ويتحول الضحية/ السجين السياسي إلى مؤلف آخر يصنع عبر سيرته أو قصته سجنا رمزيا للذات التي تعيش أزمة وجودها في «وعيها الشقي» أو أزمة وجودها في المكان الدوستوبي، أو أزمة علاقتها بالآخر، لاسيما أن سرديات البطل الأيديولوجي والثوري القومي أو اليساري، وحتى الديني فقدت جدواها، وأضحى مفهوم البطل تمثيلا للتموضع السردي في «هوية سردية» تتمثلها سيرته، أو رؤيته، أو وجوده في البلاد، أو في المنفى، أو في البحث عن مجال سردي/ عبر ورايات السير ذاتية التي تتسع لاعترافاته، أو لتطهيره من عقدة الذات المكبوتة، ومن خطايا الأدلجات الكبرى التي أورثت المثقف العربي تاريخا عصابيا، وجعلته يبحث بهوس عن براديغمات أخرى لهويته السردية، بوصفها تمثيلا نقديا للتاريخ والسلطة والجماعة والأيديولوجيا..

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية