رواية نسائية
ارتبط ظهور كتابة المرأة في الأدب العربي الحديث، بالوعي النسائي التحرري، وكلما كان هذا الوعي يتطور في لحظات حاسمة من التاريخ الثقافي والسياسي ويصطدم مع نظام الهيمنة الذكورية ومؤسساته من حين لآخر، كان يتطور في إثره الشرط الفني والجمالي للكتابة النسائية. ولهذا ازدهرت هذه الكتابة في بلدان عربية مثل مصر وبلاد الشام، وتأخر ظهورها في بلاد أخرى. ومنذ البدايات التأسيسية الأولى كانت الرواية النسائية تحفزها الرغبة في اكتشاف الذات والعالم ومقاومة الصمت، وساهمت نصوصها الأولى (زينب فواز، لبيبة هاشم، لبيبة ميخائيل صويا، عفيفة كرم..) في التصالح مع هذا الجنس الأدبي الوليد واتخاذه وسيلة تعبير جديدة وملائمة لروح عصرهنّ، بل إن رواياتهن ظهرت -تاريخيّا- قبل أي رواية من تأليف رجال عرب. وكانت سرود الرواية النسائية من حيث موضوعاتها تصطبغ في كل مرحلة تاريخية بطابع معين يمليه «إبستيمي» العصر واشتراطاته الضاغطة؛ فقد انخرطت في سنواتها الأولى في موضوعات النضال ضد الاستعمار الأوروبي ومن أجل التحرر الوطني، والدفاع عن حقوق المرأة في مجتمع تغلب عليه تقاليد النظام الأبوي وأعرافه الصارمة، ثم ناضلت من أجل التحرر التام بشخصيتها ونفسها ومصيرها (ليلى بعلبكي، كوليت خوري..) وفي سبيل حريتها وكرامتها وأخلاقيّات كتابتها، و»لم يعد ممكنا ـ كما يقول محيي الدين صبحي- الفصل بين قضية المرأة وقضية المجتمع على كل المستويات بسبب الربط الوثيق بين تحرر المرأة والإصلاح السياسي».
ومنذ تسعينيات القرن العشرين تفتحت المدونة السردية للنساء الكاتبات أكثر فأكثر على مشروع التحرر بأوسع معانيه، وباتت تجسد وعيا أكثر جرأة وحسما في علاقاته المتوترة بالفن والمجتمع والتاريخ والأيديولوجيا، وتقاطعت فيها هموم التجديد في مقاربة الموضوعات والرؤى بلاغيا وجماليا، مع الرغبة في تجريب أساليب السرد الذي يستعيد أصواتهنّ وطرائق تمثيلهنّ للذات والعالم والأشياء، ولاسيما بعد أن دخلت نصوص وحكايات وتواريخ من الهامش العربي في صميم هذا الوعي؛ من البلاد المغاربية والسودان والخليج العربي.
إبداع بضمير الأنثى
للاقتراب من واقع هذه الرواية في وقتنا الراهن، والكشف عن طبيعة منجزها وخصوصياتها ومستوياتها في ثرائها الفني وتنوع متونها النصية وأفاقها الجمالية، ومقايسة إضافاتها النوعية إلى خريطة السرد العربي ككل، انعقدت وقائع المؤتمر الدولي الأوّل حول «الرواية النسائية العربية المعاصرة: قضايا وجماليات» في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تطوان، الذي نظّمته فرقة البحث في الإبداع النسائي بتنسيق مع مختبر السرديات والخطابات الثقافية في كلية الآداب في نمسيك – الدار البيضاء، يومي 13 و14 ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري، بمشاركة باحثات وباحثين من دول عربية، هي: المغرب وتونس وسلطنة عمان واليمن والسعودية.
ويأتي هذا المؤتمر في سياق ما عليه دأبت فرقة البحث من أجل البحث في الإبداع النسائي ومقاربة ظواهره وخصوصياته لفائدة الطلبة والباحثين، وذلك – كما قالت سعاد الناصر رئيسة الفرقة في افتتاح المؤتمر- وعيا بالمكانة التي أضحت تحتلها الرواية النسائية في حقل التداول الإبداعي عموما، وزادت: «فكما يعلم كل المهتمين فإن الرواية النسائية العربية حققت حضورا لافتا في المشهد الثقافي العربي الحديث والمعاصر، سواء من حيث الإقبال عليها قراءة، أم الاشتغال عليها نقدا وتحليلا، وأصبحت موضوعا خصبا لعدد من الدراسات العلمية والأكاديمية، بما اضطلعت به من مهام التجديد والتجدد، وابتداع أشكال سردية متنوعة، استطاعت الأخذ بزمام غواية القارئ، وإثراء فضاء السرد بالتميز والمغايرة، منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الألفية الثالثة، حيث راهنت الرواية النسائية المعاصرة على التنوع، والبحث عن إجابات للقضايا الكبرى، سواء كانت فردية، أم جماعية، وعلى امتلاك هوية متفردة تنبئ بخصائص جمالية تشكل طفرة نوعية في الأدب العربي، تمثلت في ما عرفته من تنوع في آليات إبداعها ومنافذ اشتغالها المنفتحة على عوالم مختلفة ومتنوعة، تستوجب تعميق قراءتها ونقدها لسبر أغوار قضاياها، والقبض على مستويات جمالها».
ولهذا سعت أوراق المؤتمر إلى فتح آفاق بحثية علمية تسعى نحو المواكبة النقدية لنصوص الرواية النسائية، ضمن مجموعة من المحاور مثل: الأنا والآخر، ونقض المركزية الذكورية، والجسد الأنثوي في الرواية كتجل للقهر أم كسر للتابوهات، والذات الأنثوية ومحكيات الأنا بين ما هو سيرذاتي وتخييلي، وتحولات الكتابة المعاصرة من خلال ما تبرزه من ثيمات وتقنيات كاشفة عن روح تجريبية.
مسار ومتون
في موضوع «الخطاب النسائي في الرواية المغربية والعُمانية: قضايا واتجاهات» أكدت الباحثة عزيزة الطائي (سلطنة عمان) أنه رغم اختلاف جغرافيتي البلدين (المغرب وعُمان) وتنوع الإثنية فيهما، والبون الشاسع لطبيعة المستعمر لكل منهما، إلا أنهما يشتركان في الهوية اللغوية، والثقافة المجتمعية والانتماء الوطني. ويبقى أن التحولات الكبرى التي صاحبت كل مجتمع منهما تركت آثارها التي لا تمحى على جسد المدونة السردية ووجهت مسارها الإبداعي الخاص بها، وبالتالي أسست خصوصيته المعرفية عبر مرجعيات الذات الأنثى وعلاقتها بالمجتمع، وهو ما نعكس على طبيعة تشكيل الهوية في نصوص إبداعية عبرت فضاء الأجناس السردية وتنوعه كالقصة والرواية وكتابة الذات.
وفي علاقة كتابات النساء بمفهوم النسوية، وجدت أن هناك فارقا جوهريّا قوامه القضية التي يحملها النص وفنّية معالجته، تساءلت: هل استطاعت الكاتبة المغربية أو العُمانية أن تؤسس خطابها الثقافي الخاص بها، بعيدا عن النسق الذكوري المهيمن؟ وهل كشفت عن خصوصياتها النوعية وملامحها الخطابية؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما أبرز مميزات ذلك الخطاب وتشكله في الزمان، وعلاقته بالمكان، وأبعاده النفسية على الشخصية الروائية؟ وهل أبدع الخطاب سمات أنثوية خاصة به من إقليم عربي إلى آخر؟
ولوضع هذه الأسئلة على المحك، اختارت الباحثة نماذج روائية تجمع بين الكاتبتين العُمانية والمغربية، واعتمدت في اختيارها على مقاربة الثيمات التي تطرقت لها الروائيات، وحدود انفصال كل بيئة عن الأخرى، بما تحمله من دلالات جغرافية، ومخزون ثقافي، وتركيبة سكانية، ومؤثرات خارجية. وقد كشفت روافد النصوص السردية التي تتبعتها بالتحليل عن ثراء قوامها النصي والتزامها الصارم في البحث عن تربة إنسانية، فيما كانت أبعاد القضايا الروائية تتنوع بشكل بارز يتيح وضع معايير الاتفاق والاختلاف داخل هذه النصوص. وإذا كانت الرواية النسائية في عُمان قد تأخر ظهورها إلى أواسط تسعينيات القرن العشرين («قيثارة الأحزان» لسناء البهلاني 1994 و»الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي 1999) بالمقاربة مع نظيرتها المغربية، التي ظهرت نصوصها الأولى قبل ثلاثة عقود من هذا التاريخ، وكانت تخضع في تاريخها إلى التقطع لا الاسترسال، إلا أنها استطاعت في سنوات الألفية الثالثة أن تتبلور وتتنوع أنماطها وطرق تشخيصها اللغوي للعالم وأطروحاتها بين ما هو اجتماعي (هدى حمد، فاطمة الشيدي، جوخة الحارثي، فوزية الدواوي، شريفة التوبي) وتاريخي (زوينة الكلباني، بدرية البدري، بشرى خلفان) وإنساني (غالية آل سعيد، ليلى عبد الله، عزة الكمياني) وفانتازي (شميسة الراسبي، فوزية الفهدي).
ويذهب الباحث عبد الدايم السلامي (تونس) إلى أن محكيَّات الرجل حول المرأة قد ضَعُفَ منسوبُها منذ بداية هذه الألفية لأسباب حضاريّةٍ عديدة. ولهذا يبدو أنّ محكيَّاتِ المرأة حول الرَّجلِ (بعد تأسيسها التخيّلي الشهرزادي) راحت تتعزز اليومَ بتؤدةٍ، وبفَنٍّ، وبجُرأةٍ، ونُلفي لها صورة جليّة في فنّ السّردِ، حيث صار للمرأة لسانٌ وبيانٌ هما سبيلها إلى تصحيحِ وضعها في المُتصوَّر الاجتماعي والثقافي عبر خلقِها حكايتَها وروايتِها بلسانها. ويستخلص أنّ المرأةَ قد احتازت في المرويات القديمة صورتيْن: صورةَ كونها الفاعلةَ في مستقبَل الرجل، وصورةَ كونها النسّاجةَ/ السّاردةَ لحكايتها. وهي لم تغادر حيِّزَ تَيْنِك الصورتيْن في بعض الروايات النسائية التونسية التي كُتبت بعد ما يُسمّى: ثورة الياسمين. ففي الصورةِ الأولى نُلفي الروايةَ تضع بطلاتها في مواجهة مع الرِّجالِ، سالباتٍ منهم القدرةَ على الفعل في الحكايةِ، وفي الحياة عامّة، فإذا الواحد منهم عاطلٌ عن الفعل، على غرار ما تكفّلت بتسريده روايةُ إيناس العبّاسي الموسومة بـ»منزل بورقيبة» (2018). وفي الصورة الثانيةِ، نجد الروايةَ تفتكُّ من الرّجلِ القدرةَ على سردِ الحكايةِ، فارضة عليه الصَّمتَ، فإذا هي تصنع حكايتَها بنفسها، وتَرْويها بنفسها، على حدّ ما فعلت الصحافيّةُ «باهية» بطلةُ رواية «شطّ الأرواح» لآمنة الرميلي (2021). فلم يبق من صورة الرجل في الروايتيْن سوى صورةِ كيانٍ آدميٍّ «يجلس على كرسي هزّاز اشتراه من سوق الأثاث المستعمَل، يفرد ساقيه أمامه، ويدخّن السيجار مستمعا إلى طقطقات حبيبة مسيكة» على حدّ ما نقرأ في رواية «منزل بورقيبة».
وحللت الباحثة سلمى براهمة (المغرب) ثيمتي الانفلات والاغتراب في رواية ربيعة ريحان «الخالة أم هاني» (2020) وبما أنّ بطلتها امرأة فقد استدعت عالما من النساء، وبالتالي عالما من الرموز والتمثلات العاكسة. وإذا استطاعت البطلة أن تنفلت من قيود مؤسسة المجتمع الذكوري أو من النظام الأبوي المتمثل في الأسرة، إلا أنه سرعان ما وجدت نفسها بعد الانعتاق تواجه حالة اغتراب قاسية. وبعيدا عن النسوية، وعن افتعال الصراع بين الرجل والمرأة، تسعى الكاتبة ربيعة ريحان، من خلال هذه الرواية، بل في مجموع قصصها ورواياتها، أن تؤزم خطابات الفكر الذكوري وتواجهه بصوت هادئ وغير متشنج.
وعرض الباحث محمد الإدريسي (المغرب) في مداخلته لخطاب الانكسار في رواية: «صيف مع العدو» لشهلا العجيلي (2018) ذلك أن معظم الشخصيات النسائية في هذه الرواية كسيحة ومنكسرة، إما بسبب الخلافات الزوجية (نموذج الساردة/ الشخصية المحورية) أو الخيانة الزوجية (العمة مارية، نجوى، كارمن). وترصد الساردة من خلال محكي هؤلاء النسوة موقفهن منها بين القبول/ التعايش أو الرفض، وقد مثل للموقف الأول بالعمة مارية التي لم تجد غضاضة في القبول بخيانة زوجها لها بحجة «أن الرجال يفعلون ذلك، استمتع بلحمها قليلا، وانتهى الأمر» إلى درجة أنها لا تستعمل لفظة الخيانة في معجمها اللغوي، وكأن المفردات هي التي تمنح المعاني قسْوتها أو لُطفها، ثم مثّل للرفض القاطع بموقف نجوى وكارمن التي جعلت من الخيانة موضوع تحليل عميق، قبل أن ترفضه رفضا قاطعا.
واندرجت بقية أوراق المؤتمر الذي تألف من أربع جلسات، في تحليل متون النص النسائي المعاصر على اختلاف نبراته وحساسياته وتقنياته الكتابية وترددها بين البوح والاستذكار ومواجهة الحاضر، على نحو يحقق تراكما في النقد النسائي، ويحفز الباحثين على مزيد من الحفر فيه وتقليب أسئلته المخصوصة مثل: سيمياء الحواس في رواية «أصابع مريم» لعزيزة الطائي، ومتخيّل الانهزام في رواية «نساء يوسف» للينة كريدية، وجمالية الأمثال الشعبية في رواية الزهرة رميج، وتجلّيات الذات الأنثوية في كتابات هند الزيادي والسقوط في رواية «نقطة انحدار» لفاتحة مرشيد» والهوية الحائرة والأنثوية الثائرة في رواية «للجوع وجوه أُخرى» لوفاء البوعيسى، وبناء الذات وصورة المرأة في رواية «ملهمات» لفاتحة مرشيد، وجدلية الأنا والآخر في رواية «عزوزة» للزهرة رميج، والرواية النسائية بين تقويض المركزية الذكورية وترسيخ الهوية، من خلال رواية «الورقة والأريكة» لوفاء مليح، والمحكي الذاتي والقصدية الحِجاجية: قراءة في رواية «نساء على أجنحة الحلم» لفاطمة المرنيسي، ومرايا متعدّدة بشهريار واحد من خلال رواية «الملهمات» لفاتحة مرشيد، ومتاهة الحلم والواقع وقضايا الهوية الإنسانية في رواية «الغجرية» لوئام مددي، وجمال الأنثوي وسردية الذاكرة في رواية «بيتنا الكبير» لربيعة ريحان، ونسيج الذكريات في «غرام براغماتي» للكاتبة عالية ممدوح، والرواية النسائية في الصحراء: رواية «سيدات الكثيب» للبتول محجوب لمديميغ نموذجا.
كاتب مغربي