الزراعة «الناعمة الخبيثة» وتقسيم السودان

ابتدرنا قبل عدة أسابيع سلسلة المقالات التي نحاول عبرها تسليط الضوء على مجموعة من الأسئلة الرئيسية التي تشكل جوهر الرؤية لوقف الحرب المدمرة في البلاد، ومناقشة الإجابات المحتملة على هذه الأسئلة، بما في ذلك الإجابات التي تعبر عن وجهة نظرنا الخاصة.
ومن المفترض في مقال اليوم أن نستكمل الإجابة على السؤال الرابع من أسئلة الرؤية ومناقشة الجزء المتعلق بقضية الإصلاح الأمني والعسكري. ولكن التطورات في المشهد السياسي والعسكري في البلاد، دفعتنا إلى قطع هذا التسلسل لنستدعي إحدى القضايا الرئيسية وطرحها في مقال اليوم، علما بأننا كنا سنتناولها في المقالات اللاحقة. ونعني بهذه التطورات ما يدور من مناقشات حول احتمالات تقسيم السودان على إثر التطورات العسكرية الأخيرة في دارفور.
نحن هنا لا نود مناقشة مسألة تقسيم السودان كمخطط أو توجه استراتيجي مرسوم سلفا في ملفات الدوائر المختصة في الدول الغربية، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، والمعنية بإعادة رسم الخارطة السياسية لبلدان الشرق الأوسط ضمن المخطط المعروف بإسم مشروع «الشرق الأوسط الجديد». فهذا الأمر لم يعد سرا، وصار متاحا للجميع وعبر مختلف الوسائط، كتبا ووثائق وتصريحات وغير ذلك. كما أنني سبق وأن تناولته بالتفصيل في عدد من المقالات، في العام 2009 والعام 2010 والسودان يتجه نحو الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان، وكذلك في العام 2016 عندما تعرضت بالتفصيل إلى مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بإعتباره يمثل الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية تجاه المنطقة الممتدة من موريتانيا والمغرب غربا إلى باكستان شرقا، ومن تركيا شمالا إلى السودان والصومال وإريتريا جنوبا، مشيرا إلى أن الآلية الرئيسية لتنفيذ المشروع هي دفع المنطقة تجاه ما سمي بالفوضى الخلاقة، حتى يتم إعادة تقسيمها إلى دويلات دينية ومذهبية ضعيفة ومتصارعة، بما يجعل من تنفيذ المشروع ممكنا وأمرا واقعا. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 كتبت « لعل انقسام السودان إلى دولتين، جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، بدعم فعال من الولايات المتحدة الأمريكية، هو حلقة من حلقات تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد». كما أن واقع الحرب الأهلية الطاحن في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، يهدد بانقسامات جديدة في البلاد». لكن مقالنا اليوم، ليس معنيا بإعادة ما ناقشناه سابقا حول هذا المخطط، ولكنه معني بمحاولات ما أسميه «الزراعة الناعمة الخبيثة» لفكرة التقسيم في أذهان السودانيين عبر أساليب ناعمة تسري كالمخدر، وتدغدغ ما في هذه الأذهان والمشاعر من مستقبلات حتى تتقبل فكرة التقسيم بأريحية ورضا، كما أن المقالة معنية بأن نقاوم ونصمد ولا نستسلم لهذا المخدر المدمر.

إن محاولات زرع فكرة تقسيم السودان بدءا من فصل دارفور، وتيمنا بفصل جنوب السودان، هي مؤامرة خطيرة إلى درجة بعيدة، ولكن الأخطر منها هو الاستسلام لخدر هذا الزرع وجعله يسري فينا حتى يتمكن من وعينا

أما بذور وتقنية وآليات هذه «الزراعة الناعمة الخبيثة» فتبدأ بزراعة سؤال لا علاقة له بالبراءة إلا في مظهره فقط، وهو «هل الحرب المدمرة التي تدور رحاها اليوم في السودان هي مقدمة لانفصال دارفور ومواصلة استكمال تقسيم السودان حسب الخريطة المشهورة والتي تقسم السودان إلى دويلات؟»!، لتتوالى المناقشات والإجابات عليه، المزروع منها والمنبت، من نوع «يبدو أن انفصال دارفور قادم لا محالة» و«لا قدرة لنا على مقاومة الاستراتيجية التي تسعى إلى تقسيم السودان» و«أساسا إثنيات السودان لا يمكن أن تتعايش في دولة واحدة» و«يبدو أن الحرب لن تتوقف إلا بانفصال دارفور» وصولا إلى القمة بطرح «فلتذهب دارفور حتى نرتاح» على شاكلة ذات الطرح وذات النسق الذي ظل يدعو لفصل جنوب السودان، وذبح الثور الأبيض عندما تم. صحيح أن هذه البذور وهذه التقنية تأتي من الخارج في إطار مشروع «الشرق الأوسط الجديد» المشار إليه أعلاه، لتزرع في عقولنا وأذهاننا وتنمو حتى نتقبل فكرة التقسيم وانفصال هذا الجزء أو ذاك من البلاد بكل بساطة وكأنها المجرى الطبيعي للأشياء، ولكن، دعاة إستمرار الحرب هم من يتعهدون هذه البذور بالسقية والرعاية حتى تنمو وتتشعب. ويمكننا رصد حيثيات «الزراعة الناعمة الخبيثة» في عدد من الأحداث الملموسة، منها مسار المعارك العسكرية الأخيرة في دارفور وانسحابات القوات المسلحة من الإقليم، الجهر بعقيدة «دولة البحر والنهر» سؤال مسؤول أمريكي لأحد القيادات الدستورية السودانية حول معقولية انفصال دارفور، وتغريد القيادي السوداني بذلك تلميحا في صفحته الرسمية، إشارة أحد القياديين في دولة إقليمية، عند لقائه أحد السياسيين السودانيين، بضرورة النظر في انفصال دارفور كاحتمالية تقبل النقاش، إضافة إلى ما يدور من مناقشات في الوسائط، وما يسطّر في المقالات محليا وعالميا.
إن محاولات زرع فكرة تقسيم السودان بدءا من فصل دارفور، وتيمنا بفصل جنوب السودان، هي مؤامرة خطيرة إلى درجة بعيدة، ولكن الأخطر منها هو الاستسلام لخدر هذا الزرع وجعله يسري فينا حتى يتمكن من وعينا وسلب إرادتنا في المقاومة. ولعل أولى خطوات المقاومة تبدأ بالإنتباه وباستقراء ما دشنته ثورة ديسمبر/كانون الأول من فضاء جديد يشدد على مطالب الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة الوطنية الحداثية، وبالعمل على خلق أوسع جبهة لمقاومة هذا المشروع/ المؤامرة. وما يضاعف من مشروعية وقوة هذه الخطوة أنه، ورغم ما حاق بدارفور من ظلم وتهميش وانتهاكات وقتل حد التطهير العرقي، لم يأت من داخلها ومن بنيها وقادتها أي صوت يطالب بانفصالها. صحيح أن المدخل العملي لإخراس هذه المؤامرة هو وقف الحرب
وفق رؤية يكون جوهرها هو بحث قضايا إعادة بناء الدولة السودانية عبر التوافق على مشروع وطني يحتفي بحقوق مكونات البلاد المتعددة والمتنوعة، ويقضي على جذور التهميش ومسببات الحرب والأزمة التي ظلت تمسك بخناق البلاد منذ فجر استقلالها. وفي هذا الاتجاه، أقترح ضرورة عقد حوار سوداني سوداني، يجمع القوى المدنية والسياسية التي تسعى لوقف الحرب مع القيادات الدارفورية من الحركات وغير الحركات والإدارات الأهلية، لبحث كيفية المقاومة وقطع الطريق أمام مؤامرة «الزراعة الناعمة الخبيثة».

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية