الزمن هو الوعاء الذي يتضمن الأحداث التي تجري في الطبيعة على شكل قوانين فيزيائية لا دور للإنسان في حدوثها، كما أنه الوعاء الذي يتضمن ما يقوم به الإنسان نفسه من أفعالٍ منبثقةٍ عن رغبته وإرادته الحرة؛ ولذلك فإن التاريخ الإنساني يتشكل من أحداث إنسانية يحاول الإنسان أن يصنعها بوعيٍ وفق رؤيةٍ مسبقةٍ انتهجها، واستراتيجيةٍ واعيةٍ خطط لتطبيقها وجعلها جزءا من حياته على الأرض، وشكلا من أشكال تجلي ذاته، وتشكيل هويته. لكن سير التاريخ قد يستعصي أحيانا على ما نرغب في تحقيقه، وقد يختط لنفسه طريقا آخر لم يكن في الحسبان، ولنا في تجربة الاتحاد السوفييتي مثال واضح على ذلك؛ إذ إن التاريخ تمرد في امبراطورية الدب الروسي على الرؤية الشيوعية، وأفلت من القبضة الحديدية التي كان يمسكه بها ستالين رغم شدتها، وتخلص من المآل الذي رسمه الماركسيون له.
وقد يحدث أنْ تهيمن شريحة اجتماعية أو سياسية معينة على الأحداث التاريخية والإنسانية في بلدٍ ما بطريقة لا شرعية ولا قانونية؛ وتوقف مسار التاريخ فيه عند نقطةٍ معينةٍ، وتجعل الزمن الذي يتحرك فيه موظفا لتحقيق مصالحها، وإدامة وجودها في السلطة؛ فينفصل الزمن الاجتماعي الذي يعيشه أهل البلد نفسه عن الزمن الموضوعي العام الذي تعيشه باقي البلدان؛ ويتباطأ في حركته، حتى ليخيل إلى معايشيه أنه توقف تماما، ولم يعد يتحرك، وفي ظني أن هذا ما حدث عندما ساهمت السلطات الاستبدادية في بلدان العالم الثالث عموما بإيقاف حركة الزمن إلى الأمام، ومنْعه من التطور؛ إذْ هيمنتْ عليه، وغيرت مساره لتحقيق مصالحها الخاصة، وجعلتْه مفصولا عن الزمن الموضوعي العام الذي يتحرك من حولها؛ وأتاحت لقوى خارجية معروفة أن تساعدها في حرف مساره، وجعْله خادما لها، واستثمار هذه الحركة لصالحها.
وقد ظهرتْ عقب ذلك قوى داخلية محددة في هذه البلدان، سماها المفكر مهدي عامل ( 1936-1987) (البورجوازية الكولونيالية) كان لها مصلحة في فصل حركة هذا الزمن عن الزمن الموضوعي العام، بعد أن التقتْ مصالحها مع مصالح القوى الإمبريالية الخارجية؛ وقد أمكن للطرفين أنْ يعملا معا في إتمام عملية الفصل؛ فأمست البلدان المشار إليها عربة مقيدة ترتبط حركتها بحركة القوى الخارجية، وتنفيذ رغباتها وأوامرها، وهو ما حدث في البلدان العربية التي حصلتْ على استقلالها الشكلي عن المستعمر الأجنبي في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم؛ لكنها لم تنفصل عنه من الناحيتين السياسية والعملية، بل ظلتْ تابعة له، وتدور في فلكه، ولسنا في حاجة إلى ضرب أمثلة لتأكيد ما قلناه؛ فهو معروف للغادي والصادي، ولكل من يقرأ، ويفك الحرف.
وثمة ملاحظة، هنا، لا بد من ذكرها هي أن الزمن يتحرك بشكلٍ خطي إلى الأمام من الناحية الفيزيائية، ولا يستطيع أحد إيقافه ومنْعه من الاستمرار في حركته، لكن بعض الشرائح الاجتماعية قد تحاول إيقافه، وإعادته إلى الوراء، وترى في هذه العودة السبيل الأمثل لتحقيق مصالحها، وموْضعة أفكارها على الأرض، ومنهم السلفيون المتزمتون، أو المتطرفون، الذين يحاولون إيقاف الزمن الاجتماعي في بلدانهم، ومنْعه من الاستجابة لحركة الزمن العام؛ والتواصل معه من موقع الفاعل والإيجابي، معتقدين أن الزمن الذي يعيشونه في بلدانهم متعفن وفاسد ومرذول، وينبغي أن يتوقف، وأن السبيل الأمثل للوقوف في وجهه وتغيير حركته يتمان بالعودة إلى الماضي، وإلى التراث الديني تحديدا بغية الخروج من التبعية الغربية عامة، والوصول إلى زمن الصفاء المأمول، وهو ما نادى به سيد قطب ( 1906-1966) زعيم حركة الإخوان المسلمين، ومنْ لف لفه من جماعات الإسلام السياسي كـ(حركة التكفير والهجرة) وغيرها.
أما الماركسيون، وفي مقدمتهم جورج لوكاتش، فيرون أن الماركسية تملك إدراكا للخطوط الرئيسة التي يتحرك بموجبها التاريخ، ويسير وفقها التطور الإنساني، وهي في رأيهم تحيط بقوانين هذا التاريخ، وتستطيع تبين المنفذ للخلاص من الظلمة التي تحيط بالعالم.
وعند سيد قطب أن وجود الأمة الإسلامية قد انقطع منذ قرن، وأن الواجب يملي عليه وعلى جماعته إعادة هذه الأمة إلى ما كانتْ عليه، وتحقيق البعث الإسلامي، ولا بد لتحقيق ذلك من أن نخلع الولاء لـ(المجتمع الجاهلي) الذي نعيش فيه، ونقيم قطيعة كاملة معه، ثم نبدأ بإنشاء مجتمع مستقل منفصل عنه، ومن هذا المجتمع المستقل المنفصل الجديد تكون بداية الجامعة الإسلامية التي تحرر العالم من حاكمية البشر، وتقيم حاكمية الله.
أما الماركسيون، وفي مقدمتهم جورج لوكاتش، فيرون أن الماركسية تملك إدراكا للخطوط الرئيسة التي يتحرك بموجبها التاريخ، ويسير وفقها التطور الإنساني، وهي في رأيهم تحيط بقوانين هذا التاريخ، وتستطيع تبين المنفذ للخلاص من الظلمة التي تحيط بالعالم؛ لأنها تعرف «من أين جئنا، وإلى أين نمضي» وحين يخفق الكثيرون في القبْض على التطور الهادف الذي يتحرك العالم بموجبه، ويعجزون عن فهم الاضطراب الأعمى الفاقد للمعنى الذي يتبدى أمامهم، فإن الماركسيين، حسب لوكاتش، يستطيعون تبين «آلام المخاض التي تنبئ عن مولد عالم جديد» ( دراسات في الواقعية الأوروبية: لوكاتش، ترجمة أمير اسكندر، القاهرة). والماركسية في رأي لوكاتش، أيضا، «علامة تشير إلى الاتجاه الذي يمضي فيه التاريخ إلى الأمام، وهي تحمل يقينا نهائيا يؤكد أن تطور الجنس البشري لا يفضي ولا يمكن أن يفضي في خاتمة المطاف إلى لا شيء، إلى فراغ» (المصدر نفسه). ولا شك في أن هذا الفهم الطوباوي للزمن والتاريخ تلقى ضربة قاصمة، في أواخر القرن المنصرم، جعلته يتهاوى أمام قوانين الواقع الموضوعي الذي لا يمكن لأي أيديولوجية أن تضعه في قالب، وتحكم عليه حكما معزولا عن جدل علاقته الموضوعية مع الإنسان والقوى التي تتحكم في حركته وتطوره.
أما إذا ذهبنا إلى أن الزمن هو الوجود نفسه؛ وما يمكن أن نعبئه فيه، فيصبح لكل منا زمنه الخاص به، المنفصل نفسيا عن الزمن الاجتماعي العام، أو المتناسج معه، أو المفارق له، وبعض من ينخرطون في الزمن الاجتماعي الذي يعايشونه في أوطانهم، قد يجرهم التيار الاستهلاكي المهيمن في هذه الأوطان، ويستنفد ما لديهم من إمكانات مادية، ويفضي بهم إلى بلوغ نقطة لا تساعدهم على تحقيق ذواتهم، بل قد تعمل على تشظيها وتفتيتها، وقد تمسي هذه الذوات أدواتٍ طيعة أو مأجورة في أيدي قوى محلية أو خارجية، تستثمرها لمصلحتها، تماما كما يحدث الآن لمن ينجرون وراء مقتضيات النمط الاستهلاكي المهيمن في العالم؛ فيسارعون إلى شراء ما تتطلبه حمى التسوق، أو يقومون بجراحات تجميلية لتغيير وجوههم وأجسادهم، أو يرتدون (جينزاتٍ ممزقة) جريا وراء الموضة؛ فهؤلاء انقادوا دون وعي إلى ما يتطلبه النمط الاستهلاكي من قبولٍ للمثل الجمالية، والقيم التي يطرحها، والتحموا معه من موقع المنفعل والسلبي لا الفاعل، وأصبحوا عاجزين عن تحقيق ذواتهم وبناء هوياتهم، حسب ما تقتضيه الدلالة الإيجابية لتحقيق الذات وبناء الهوية، أمثال هؤلاء أصبحوا خارج الزمن والتاريخ، وهو حال معظم العرب المعاصرين… دون أن يدركوا ذلك للأسف.
كاتب سوري
إن التاريخ تمرد في امبراطورية الدب الروسي على الرؤية الشيوعية، وأفلت من القبضة الحديدية التي كان يمسكه بها ستالين رغم شدتها، وتخلص من المآل الذي رسمه الماركسيون له.
يا استاذ ما علاقة التاريخ بالتمر د على الرؤوية الشيوعية فالتاريخ حالة زمنية معنوية لا علاقة لها بما يقوم به الانسان من قول او فعل وانما الانسان يسخر التاريخ ليسجل كل ما ياتي به هو 0 ولا يستطيع الانسان ان يمسك بالزمن لانه خارج حدود قدراته المادية فهو كالسراب في ماهيته وكينوته لانه شيء معنوي وليس شيء مادي لذلك فان لا ستالين ولا غير الستالين من السابقين له او من القادمين بعده ان يقبض على الزمن ان الزمن هو الذي يتحكم بالانسان وليس العكس ومن امثلتي على ذلك رغم كثرتها هو الموت فلو ان الانسان الذي يكره الموت بطبيعته لتحكم بالزمن واوقف شيخوته وكذلك لاوقف موته 0