السرب الدبلوماسي

أرقب سربا من الطيور مهاجرا، أستطيع أن أتكهن بمن يكون قائده الذي ينظم مساره ومسيره . كيف يختار السرب زعيمه؟ حتما بالانتخاب الطبيعي وبمقاييس واضحة جدا تراها عيون الطيور الدقيقة، وتؤمن بها قلوبها الصغيرة الخفاقة. سرب الطيور المهاجرة لا يحتاج جواز سفر، ولا يمثل البلد الذي هاجـــر منه: هو سرب دبلوماسي لأنه حيث يحل يمثل الطبيــــعة – بلاده الأصل- أحسن تمثيل ويدافع عن السلام بين عناصرها كأحســـن تمثيل. السرب المهاجر يسعى منذ بداية حركة الهجرة إلى فك العزلة عن البلدان وهذا غرض أساسي في الدبلوماسية.
مالي أنتبه للطيور وفي قريتي لا يأبه الناس بالطيور أهاجرت أم مكثت؟ ليست الطيور شيئا مهما في حياة الكادحين والآخذين الدنيا غِلابا. الطيور يمكن أن تكون موضوع تندر وفكاهة، أو تكون قصة خرافية مقدسة كالتي تنسج حول الخُطاف إذ يسمى طائر النبي، وحين يقع في الأيادي فإن رأسه يُغَلف بالزيت تبركا به وتقربا إلى الله. الكبار لا يعنيهم من أمر الطيور السماوية شيء هم يربون الطيور الداجنة ليذبحوها أو ليبيعوها لمن يذبحها، وليأكلوا بيضها مسلوقا أو مشويا. البيض كان في قريتنا عملة تشتري به يوم السوق الأسبوعية أشياء بخسة عند بائعها، ثمينة عند شاريها، بل يمكن أن يُشترى بها الشاي. وحدة البيض عندنا أربع وتسمى «الحارة» ولا علاقة لها بالحي الذي تكون منازله متصلة، وإنما الحارة وحدة عد تتألف من أربعة لا يحسب بها إلا البيض إجبارا، وهو إلى اليوم وحدة بيع في الدكاكين لا في المغازات الكبرى.
وحدة الكيل هذه حيلة قديمة لها جوانب رياضية وأخرى تجارية، ولنا نحن اللسانيين أحفاد اللغويين فيها نفع وروابط. نحشر نحن النحاة أنفسنا في كل شيء حتى في عد ما لا يطالنا منه إلا وجع الرأس؛ التجار يقبضون ونحن نقنن لهم قواعد العد حين يرومون تدوين العقود باللغة، أو نخبرهم كيف تكون الأسماء منعدة بشكل تتفرق آحاده أو تجتمع أو بشكل لا تتفرق فيه تلك الآحاد ولا تجتمع. بالطبع لا يلتفت التجار إلى هذه المسائل فهي لا تفقرهم ولا تغنيهم، لكنها تفقر أو تغني عقولهم، وهل لها من قيمة عقول غنية لأصحاب جيوب فقيرة: الجواب في بلاد تداركها الله: كلا وألف كلاǃ يشتغل اللسانيون هنا بقضايا اللسان كما اشتغل نوح بالفلك وأهله منه هازئون.

فكرة الأفراد هي فكرة أوسع من الأشياء التي ندعي أن الأسماء تعينها وهذا هو شأن السرب في الفصحى وهو اسم يعين جماعة من الطير في السماء وكذلك فكرة «الحارة» في اللهجة التونسية التي تعين عدة مجتمعة ووحدة للعد الرباعي للبيض.

لنعد إلى طيورنا وبيضها وللسرب وطيوره من منظار لساني. حين يرى اللساني أسراب الطيور تهاجر في السماء، فإن مشهدها لا يعنيه وحين يرى البيض يباع ويشترى فإن بيعه لا يعنيه، هو يصبح معنيا حين يصف واصف بلسان ما تلك الطيور المهاجرة، أو يقول مواطن فقير يشتري البيض بالعنت اعطني بيضــــة فيقول التاجر: لا أبيع إلا بالحارة أي بالأربع. «حارة» البيض أي أربعتها التي اشتعلت في ثمنها النــــيران، والسرب الذي طار مهاجرا يطلب الدفء، عبارتان لكنهما عند اللساني شيء واحد: وحدة عد لعناصر قابلة لأن تعد بأفْرادها. وهنا تبدأ الحكاية فاسمعـــوا وعوا وإذا أثقل اللساني عليكم فاصبروا.
تميز أنحاء عديدة – وليس النحو العربي منها- بين ما تسمــــيه الاسم المنعد Count noun واسم الكتلة Mass noun ؛ المنعد هو الاسم الذي تقبل عناصره الجمْعَ بعدد معين ومثاله طائر وبيضة وشاة وقلم، بينما اسم الكتلة لا تقبل عناصره لا الإفراد ولا العد، ومثاله ماء وزيت وعشب ورمل، فلا يُعد الزيت في ذاته بل يعد إنْ حَواه شيءٌ فيقال جرة زيت أو عشرون جرة زيت، وإنْ حدث أن عُد ،فإنه لا يكون نوعا بل جنسا كأن يقال شربت مائين: ماءَ العين وماءَ البئر ولعبت على أعشاب الملاعب البرازلية كلها.
اللسانيون العرفانيون الذين ربطوا بين اللغة والذهن، وبينهما والتجربة الاجتماعية الموسعة اعتبروا هذه القسمة ذهنية وليست نحوية اصطناعية. فهناك عناصر في الموجودات المعدودة وفي ثقافتنا المتعلقة بالتعامل بها ما يجعلنا نميز بين أسماء تقبل العد وأخرى لا تقبله. هناك أسُس إدراكية تصلح لأن تميز بين نوعي الاسمين. في الفرضية العرفانية أن الأسماء المنعدة تسمي من الكيانات ما كان إفراديا واحدا مستقلا بنفسه؛ أما الاسم الكتلة فيعين الكيانات غير الإفرادية التي لا تكون العينة منها قابلة لأن تستقل عن غيرها من مشابهاتها ؛ وتعين الأسماء المنعدة الكيانات المحدودة أو المتناهية، بينما تعين أسماء الكتلة الكيانات التي لا تقبل الحد. فعلى سبيل المثال، فإن الماء لا يمكن أن يكون محدودا إن لم يحده حد، وأن الطوفان يعظم بعظم المساحة التي يغطيها أو التي يحيط بها. وهناك فرق آخر بين الاسم المنعد واسم الكتلة، هو أن الجزء من الكيان الذي يعينه الاسم المنعد ليس هو الكيان الكامل، فرأس القط ليس هو القط وغطاء القلم ليس قلما؛ بينما يكون جزء الكيان الذي يعينه الاسم المنعد الكيان نفسه فقطرة الماء ماء وقطعة العشب عشب.

ضحكت حين تخيلت أن للسرب نقيضا هو «الكمشة» هي نقيض لأنها تعين عددا غير محدود، قليل وبخس.

فكرة الأفراد هي فكرة أوسع من الأشياء التي ندعي أن الأسماء تعينها وهذا هو شأن السرب في الفصحى وهو اسم يعين جماعة من الطير في السماء وكذلك فكرة «الحارة» في اللهجة التونسية التي تعين عدة مجتمعة ووحدة للعد الرباعي للبيض؛ وكذلك الدسْتَة التي تعين وحدة عد مؤلفة من اثني عشر عنصرا من الأشياء القابلة للإفراد. هذه الأسماء التي هي وحدة عد دقيقة (دستة، حارة) أو غير دقيقة (سرب) تعين أفرادا مجردة، على الرغم من أنها تتألف من أشياء مادية. أخطر ما في الأمر أن وجهة النظر العرفانية تؤيد أن السرب والحارة والدستة ينظر إليها على أنها كيان واحد من الأشياء، رغم أنها تتألف من أفراد. لا نريد أن نبحث في الخلفيات الثقافية التي جعلت البيض يباع عندنا قديما بالأربعة، ربما لم يكن الأمر يتعلق بالبيع بل بعد الملكية: أربع بيضات مع أربع بيضات تمثل ثروة لفلاح صغير عليه أن يُطعم صغاره ويقوم بأوَدِ عياله.
سرب الطيور يغادر سماءنا يهاجر فرارا من البرد، أردت أن أعده فغاب في الأفق لأنه يأبى أن ينعد هو المنعد. تذكرت وأنا أرى هذه الوحدة المجردة من الطيور أسرابا من البعوض والذباب تعشش فينا تمتص دمنا ولا تهاجر. كل شيء جميل يهاجر يتركك ويهاجر في أوج علقتك به، أو يقدم في أوج الحاجة إليه. الكلمات تهاجر أيضا بلا رخصة كالطيور.
ضحكت حين تخيلت أن للسرب نقيضا هو «الكمشة» هي نقيض لأنها تعين عددا غير محدود، قليل وبخس.. يمكن أن تهاجر الكلمات لتعاقب أو لتحاسب وهي تحسب: من قال إن الحساب اسم بلا تورية فهو غير لساني.. أنا عرفت الآن متى يكرهون اللسانيين؟ فهل عرفتم؟ اجلسوا قليلا مع اللساني وهو يصنع الفلك وافهموه وأنصتوا جيدا فلربما فهمتم أمْرَ التورية.. اللسانيات كالدبلوماسية أحيانا: هي فن الغطس في الماء العكر بدون أن تصدر صوتا.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيف كرار ،السودان:

    من اصعب الاشياء ان تهاجر الكلمات والحروف من افواة كلاب البشر إلي الآخر ،ومن اصعب الاشياء ان تستقر الاموال في جيوب كبار الرأسماليين ولا يخرجوها عند الطلب ،وتشتكي البنوك المالية من عدم وجود أي موسم هجرة اليها ،وتعلن افلاسها ،واللة ينصر دين النظام المصرفي الذي يرقد علي شواطئ الإفلاس…سبحانك اللهم..

إشترك في قائمتنا البريدية