كثيرا ما نتصور أن ما يأتي به النقاد والباحثون الغربيون من نظريات ومفاهيم هي خاصة بهم وتطبيقاتها محصورة في أدبهم، ومن ثم يكون تطبيقنا لمعطياتها على نصوص أدبنا من قبيل التمحل والقسر والإرغام. وهو أمر يتنافى مع منطق الإبداع الذي هو عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها أو لغرب دون شرق كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي بعضها بعضا، ويضيف بعضها إلى بعضها الآخر ويطوره. ولا يهم إن كان الأخذ كثيرا أو كانت الإضافة قليلة لأن المنطلق واحد وهو التأثر والتأثير بين الآداب على اختلاف أزمنتها وأمكنتها ولغاتها.
وتبقى الأولوية في التأثير محسوبة لتلك الآداب التي هي أقدم من غيرها، بينما تكون الأولوية في التأثر للآداب الحديثة المنتمية إلى الأمم والحضارات الناشئة التي تملك مقومات ثقافية تجعلها جاذبة ونافذة ومستقطبة للآداب الأقدم، مهيمنة على عناصر تميزها. وإذا كانت النظريات النقدية الحديثة وليدة العقل الغربي، فإن ذلك بطبيعة الحال ناجم عن النزعة التجريدية في فكر ذلك العقل. أما الإبداع في الفن والأدب فيبقى حرا ومفتوحا، لا ينطبق على أدب الغرب وحده لأن هذا الأدب ليس نقيا مغلقا ولا هو تطور من تلقاء نفسه، بل هو حصيلة تفاعل تاريخي مع آداب الشرق القديم التي بها تأثر أدباء الغرب، بدءا من إسبانيا وإيطاليا وروسيا، مرورا بألمانيا وإنكلترا وفرنسا، وصولا إلى الأمريكيتين، سواء بالتفاعلات التاريخية المباشرة، أو في ما بعد من خلال الرحلات الاستكشافية وحملات التبشير والاستيطان الاستعماري في بلدان الشرق، ولاسيما البلاد العربية التي كان لها دور مهم ووسيط في تنشيط هذا التأثر الفعال بين الآداب الغربية والشرقية.
وما كان للرواية أن تكون جنسا أدبيا لولا حصيلة هذا التفاعل بين الآداب قديمها وحديثها شرقيها وغربيها، الذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر. ولا نغالي إذا قلنا إن كثيرا من التيارات والتحولات التي طرأت على السرد الأوروبي الحديث كانت تأتي من جانبين: الأول هو الإفادة من العلوم الحديثة وتطوراتها المتسارعة، والجانب الآخر هو استعادة أساليب السرد القديم الشعرية والسردية والمسرحية، والعمل على تطويرها موضوعيا وتقنيا. وإذا كان الجانب الأول قد اتضحت صوره في أغلب روايات القرن العشرين، فإن الجانب الثاني لم تتضح ملامحه إلا في قسم قليل من روايات القرن العشرين وبعض روايات العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. وعملت السينما والميديا وغيرهما على تحويل بعض هذه الروايات إلى أفلام وألعاب وتطبيقات لاقت رواجا كبيرا. وكان لعلم السرد ما بعد الكلاسيكي الأثر المهم في توكيد حقيقة هذين الجانبين، انطلاقا من اعتماده مبدئيات فكرية وقواعد بحثية تقوم على التداخل في التخصصات المعرفية، متجاوزا بذلك علم السرد الكلاسيكي الذي يقوم على الانغلاق في البنية أو الانفتاح بها على غيرها مع الاحتفاظ لهذه البنية بالأولوية والأهمية.
وبسبب تعدد التخصصات وتداخلها، تناسلت عن علم السرد ما بعد الكلاسيكي علوم كثيرة، منها علم السرد غير الطبيعي الذي استقطب اهتمام المنظرين الغربيين أكثر من غيره ويأتي بعده بالدرجة الثانية علم السرد المعرفي، وبالدرجة الثالثة علم السرد النسوي وعلم السرد الميديوي، ولأن في علم السرد غير الطبيعي تتبين مؤشرات استعادة الروائي الغربي لقواعد أو مواضعات السرد الشرقي القديم، يغدو دالا دلالة ناصعة على أن التنظير الفكري لهذا العلم لم يأتِ من فراغ، ولا بُني على ما في الآداب الغربية من تطبيقات إجرائية وفنية حسب، بل هو استقى تطبيقاته مما في التاريخ الأدبي من نصوص وظواهر أيضا، وصحيح أن النظرية غربية المنشأ، لكن تطبيقاتها ليست كذلك تماما، بسبب تنوع الآداب ما بين القديمة، خاصة اليونانية والرومانية والآداب الشرقية القروسطية خاصة العربية.
إن هذه الحقيقة قد تغيب عن الأذهان فنتصور أن علم السرد غير الطبيعي غربي في نظرياته وتطبيقاته معا، وأن أي محاولة نقدية لتطبيق فرضياته ومفاهيمه على السرد الشرقي هي من باب المسايرة في إتباع الآخر وتق ليده. ويفوتنا أن النقد الغربي نفسه مدين للسرد القديم بالفضل بوصفه الموئل الذي زوده بمكامن الغنى وفتح أمامه مجالات واسعة بها استطاع تطوير سردياته الحديثة والمعاصرة عبر فواعل خفية أو جلية. ولا غرابة في ذلك؛ فالتفاعل تأثرا وتأثيرا أمر قائم وطبيعي، كما أسلفنا، ومن المهم أن يكون في ذلك تحفيز لنا على استعادة ممكنات وفواعل سردنا القديم ومعرفة ما فيه من غنى. ويعد علم السرد غير الطبيعي هو الأكثر تحفيزا وتحصيلا لنا في تحقيق هذه الاستعادة، ومن ثم يتوجب علينا التفاعل مع نظرياته والاستزادة منها والتفكير في الإضافة إليها، وليس العكس أي النفور والتخوف.
ومن المؤسف أن بعض المتخصصين والدارسين المهتمين بالنظريات النقدية ما يزالون يدون امتعاضا أو اشمئزازا من هذا العلم خاصة، وعلوم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة، بدعوى أن لا نصوص في أدبنا تناسب هذه العلوم لأنها غربية نظريات وتطبيقات. ومن ثم يكون أي تلق عربي لها هو من باب التهافت على المستورد والانبهار بالموضات والتقليعات الغربية. والأكثر إشكالية في هذه الدعوى، المبادرة إلى الاستنتاج ـ دون بحث أو استقصاء ـ في أن مفاهيم علم السرد غير الطبيعي لا تنطبق على نصوص مروياتنا التراثية ولا على سردياتنا الحديثة والمعاصرة، وكأن الأدب الغربي من التفوق والتميز ما يجعله في قارة لوحده، أو كأن له مقومات ذاتية خالصة لم تمر بعمليتي التأثر والتأثير، إلى غير ذلك من التصورات والظنون الخاطئة التي هي من تبعات الفكر الاستشراقي وما خلفه الاستعمار في دواخلنا من عقدة الشعور بتفوق الآخر ودونية الذات، ليظل تفكير الناقد العربي محصورا منهجيا في (المقارنة) حسب. وهو أمر عفت عليه المناهج ما بعد الحداثية، ناهيك عما توسم به المرحلة النقدية التي نعيشها بأنها عولمية وما بعد عولمية.
وإذا كان منظرو السرد غير الطبيعي الغربيون قد تغافلوا عن التمثيل على نصوص من السرد العربي القديم، إما جهلا أو تجاهلا وقد يكون تعاليا، فإن ذلك مسوغ مهم لأن ننهمك في دراسة هذا العلم الذي فيه من المفاهيم ما يسمح لنا بتجديد رؤانا ويفتح أمامنا مجالات جديدة لمعرفة المزيد عن سردنا القديم ما فيه من ثراء لم تصل إليه أقلام النقاد العرب، ولم تتناوله بشكل عميق ولا كلي بعد، بسبب المناهج السياقية التجزيئية المرتبطة بنظريات تاريخية واجتماعية ونفسية وفنية ولغوية، أو بسبب البنيوية وما جاء بعدها من مناهج ما بعد بنيوية، اتخذت مسميات متنوعة كالسرديات التكوينية والتوليدية والسيميائية والثقافية والتلفظية والتواصلية والعرفانية وغيرها. وما ينبغي على نقدنا المعاصر هو التحرر من قيود النظر التجزيئي إلى النص الأدبي عبر الشعور بأهمية العلم، لا أهمية النظرية، في تلقي مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي. ومن ذلك مفهوم (اللاطبيعية) الذي يذهب الظن فيه عند غالبية الدارسين العرب إلى أنه يعني العجائبية والفانتازية والتغريب والخيال العلمي والواقعية السحرية مع علم هؤلاء أنّ كل مفهوم من هذه المفاهيم ينتمي إلى حاضن معرفي معين، وله مرجعية نقدية خاصة ومختلفة في موجهاتها ومقومات تطبيقها. ولأجل رفع هذا الالتباس عن هذا المفهوم عمدنا إلى اجتراح بديل مفاهيمي يحمل البعد الإبستمولوجي ذاته لمعنى اللاطبيعية هو (اللاواقعية) التي هي ليست الشيئية والعجائبية والغرائبية والسوداء أو القذرة والمفرطة إلى آخره من صور الواقعية التي ليس في واحد منها ما هو رديف لغير الواقعي، بل هي جميعها تشكل جزءا من الواقع المتخيل الذي هو بدوره جزء يسير من اللاواقعي الذي هو مستحيل الحصول أو غير معقول أي غير محتمل الوقوع.
كاتبة عراقية