«لكل خطاب سردي ثلاثة فواعل (سارد ومسرود ومسرود له) بها تتحقق تداوليته» بهذه العبارات تفتتح نادية هناوي كتابها الممتع في علم السرد ما بعد الكلاسيكي «السرد غير الطبيعي» الذي أهدتنيه مشكورة. كتاب لا أسعى إلى تلخيصه في هذا الحيز، وهو الذي يعالج مسائل في منتهى الدقة، مثل المدرسة الأنكلوأمريكية في موازاة المدرسة الفرنسية وجيرار جينيت والسرديات ما بعد الكلاسيكية، وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي ومؤسسه ديفيد هيرمان، وبراين ريتشاردسون، وعلم السرد غير الطبيعي، والسرد المضاد، والسرد غير المقيد، أو «السائب» بعبارة أخرى، والمنظور المقلوب ومولداته في السرد غير الطبيعي، والعواطف وتمثلاتها في هذا النوع من السرد؛ والوصف من حيث هو عنصر سردي غير طبيعي في الرواية أحادية الصوت مثل رواية «خمسة أصوات» لغائب طعمة فرمان.. وإنما أحب أن أسائل ما تسائله الأستاذة، وما تفترضه من افتراضات. على أني أشير إلى ناحية لغوية وهي كلمة «سرْد» بتسكين الراء التي نديرها على ألسنتنا بكل يسر وسهولة؛ ولا نتنبه إلى أنها لغة تعني أكثر ما تعني التتابع في الحديث، وتقدمة مفرداته جيدة السياق، متسقة بعضها في إثر بعض. ولذلك شرحوا «السرَد» بفتح الراء على أنه المتتابع. وقالوا في صفة كلام النبي إنه لم يكن يسرد الحديث سردا، أي يتابعه ويستعجل فيه. وقالوا في سارد القرآن: تابع قراءته في حذْر منه. لكن المصطلح استقر اليوم في علم السرديات، وقطع صلته بالأصل اللغوي؛ ولا مشاحة من استعماله. فتلك سنة اللغة في متكلميها.
إنه لمن السائغ في الدراسات السردية وهي تتجدد وتتنوع بسرعة غير مألوفة، أن ينقب القارئ عن خصائص الجنس من حيث هو نوع نظري أو مفهوم نوعي، عسى أن يدنيه من خاصة العمل المقروء. إنما ينشأ الإشكال كلما اتخذ القارئ هذا النوع نموذجا، أو قاعدة، معيارا للحكم والتمييز بين النصوص. والسرديات الحديثة تعلمنا أن نبدأ بالنص، إذا كنا نروم أن نكتشف ميزته الخاصة التي يمكن أن تختلف عن ميزة النوع. على أن هذا الضرب من المقايسة أو المطابقة كثيرا ما يصلح في إظهار الأنماط النوعية وسماتها الخاصة. وفي هذا السياق يتنزل كتاب نادية هناوي، وهو يتوزع على أربعة فصول؛ يتفرع كل منها إلى ثلاثة مباحث، ما عدا الفصل الرابع، وهو مفتاح هذا العمل المتميز الذي يغني المكتبة العربية؛ وبخاصة خاتمته الموسومة بـ «قوانين الأدب.. قوانين الحياة» حتى أنها تصلح أن تحل محل المقدمة.
وفيها تبين الكاتبة كيف أن التجديد في قوانين الأدب، إنما مصدره العمل الإبداعي، وليس النقاد الذين يجلسون مجلس القضاة المحكمين المتنفذين؛ فلا سلطان على الأديب أو الكاتب عامة غير سلطان وعيه وقدراته، وإن كان متصلا بالحياة أو هو لا ينقطع عنها. وهذا لا يعني في أي حال أن النص طليق من أي قاعدة، أو هو يسوح حيث أراد وأينما شاء له سبيله المرسوم. وكل نظام أدبي إنما ينطوي على نظام ثقافي، أو أن «الأدبية» لا تدرك بمعزل عن «اللاأدبية» أو عما نسميه «الواقع» وهو ليس أكثر من بنية جوفاء، أو هو خلْق لا يتمالك ولا يتماسك؛ ومن هنا قوة الأدب وفحولة الكتابة، وهما البناء والنظام، وكل ما يتعلق بجمالية تلقي الخطاب أو تقبله. والقراءة التي تضع هذا في الاعتبار، مسوقة إلى الاستئناس بسيرة الكاتب، والوقوف على مختلف التأثرات التي ألمت به، والإحاطة بأحوال عصره، إذ لا مفر من وجود علاقة زمنية مكانية بينه وبين خطابه. ومن هذا المنظور يمكن أن ننفذ إلى «الأفعال الكلامية» والكيفية التي تـُصنع بها الأحداث، في النص الذي نحن به، أو كيف تتأدى الأشياء والشخوص كلماتٍ متدافعة ً متجاذبة، من خلال الأفعال اللغوية الثلاثة التي تنشئ ملفوظا ما. وأولها فعل القول (ماذا يقول؟) وما يتعلق به من أصوات وتركيب كلمات، تنتظم على مقتضى قواعد اللغة، ومن شأنها أن تحمل دلالة هي محصلة المعنى والمرجعية، أو محتوى افتراضيا كما هو الشأن في القصص عامة.
ثمة إذن درجات من المقبولية تختلف باختلاف الموقف الذي يتخذه الكاتب من القاعدة. والنوع الأدبي أو الجنس إنما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الكاتب وقد لا يلتزمها، بل ربما حافظ عليها وخرقها في الآن ذاته أو استبدلها بأخرى؛ لأن ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها. لنقل إن وجود القاعدة لا يترتب عليه ضرورة حدوث مطابق لها.
وثانيها القول الفاعل (ماذا يفعل؟) وما يتعلق به اتفاقا أو مواضعة، من التزام أو مفعولية، وكذلك الغاية أو الهدف منه، ومدى هذه المفعولية المستخدمة لبلوغه، في نسج العلاقات بين المتخاطبين.
وثالثها الفعل التأثيري (لمَ الفعل؟) وهو يخرج عن الحيز اللساني، إذ يتعلق الأمر بالتأثيرات التي تنجم عن الملفوظ في وضع التخاطب، فقد تكون متباعدة في الزمن بسبب اضطرابات أو تغييرات لاحقة على زمن القول.
وهذا ما يؤكد أن وظيفة اللغة لا تنحصر في وصف العالم وتسمية أشيائه، لكن في القيام بأفعال، والتأثير في الواقع، أو لنقل إن الملفوظات يمكن أن تكون تقريرية تصف الواقع في مرحلة تاريخية مخصوصة وهي إما صحيحة مصدرها التاريخ الرسمي أو متخيلة، مثلما يمكن أن تكون «إنجازية» أي تنجز فعلا؛ فتـتحدد بمفعولها أو صوابها وموافقتها لمراد المتلفظ من عدمه.
إن التلفظ (القول) عمل لغوي يؤديه فرد، لإنتاج ملفوظ (مقول) موجه إلى مرسل، في ظروف أو ملابسات مخصوصة. وفي السياق الذي نحن فيه، فالملفوظ هو النص السردي المكتوب، لا الأحداث المروية أو المسموعة، فيما التلفظ هو الفعل اللغوي الذي يقوم به المتلفظ، وتصبح العناصر اللغوية بواسطته دالة.
فإذا كان للملفوظ من الملامح والسمات، ما يهدينا في سهولة حينا، أو في صعوبة حينا، إلى معرفته والوقوف عليه؛ فإن في التلفظ سرا خفي الشأن، يجعله يراوغنا ويفلت منا، فهو عمل فردي/فريد. وهو من ثمة مفارق» أو «متعالٍ» بطبعه؛ يتعذر إحداثه أو إنتاجه من جديد، حتى على صاحبه. وفي هذا ما قد يؤكد أنه إذا كانت الأنواع أو الأجناس ثابتة، فإن أشكالها متغيرة لا شك. وطالما اعتبرنا أن مدار الخطاب إنما هو على ذات وعلى خبرتها باللغة وبالعالم، أمكن أن نتوقع تبدلات الشكل والأسلوب، وأن نتقبل حتى أكثرها غرابة وشذوذا، بحيث نرى القيمة الجمالية في المتغير من الأشكال، أكثر مما نراها في نموذج يُحتذى أو قاعدة معيارية يُمتثل بها.
ولعل في هذه الافتراضات التي نفترضها على العلاقة بين القاعدة والنص ما يبين أنها علاقة شد وجذب، وأن النص ليس بالضرورة حصيلة قاعدة، والحق أنا أميل إلى استخدام مصطلح «قاعدة» بدل مصطلح «قانون» استئناسا برأي طه حسين الذي تمثلت به الكاتبة، في مصنفه «اختصام ونقد» «ولو كان الأدب يتطور بالقوانين أو يتحقق بمجرد الرغبة فيه، لكنت أسرع الناس إلى أن أطلب إلى الثورة إصدار قانون يقضي بهذا التطور، وينظمه كما أخذت في تنظيم الاقتصاد وشؤون الحكم؛ لكن تأثير القوانين في الأدب بطيء لا يظهر إلا حين تتأثر الحياة كلها بهذه القوانين. فليطالب دعاة التجديد توجيها صحيحا مستقيما لا إسراف فيه ولا شطط ولا جموح» فلعل القاعدة الروائية شأنها شأن القاعدة الشعرية، تكمن في خرق القاعدة أو الخروج عليها، أو على رأي المثل الفرنسي «إنما سُن القانون لكي يُخرق».
ثمة إذن درجات من المقبولية تختلف باختلاف الموقف الذي يتخذه الكاتب من القاعدة. والنوع الأدبي أو الجنس إنما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الكاتب وقد لا يلتزمها، بل ربما حافظ عليها وخرقها في الآن ذاته أو استبدلها بأخرى؛ لأن ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها. لنقل إن وجود القاعدة لا يترتب عليه ضرورة حدوث مطابق لها. والنص المطابق للقاعدة إنما هو جائز أو محتمل، لكن يُفترض في الكاتب أن يعرف القاعدة التي يلتزمها أو يخرقها ويخالفها، ما دام النص محكوما بقصد أو منضويا إلى جنس بعينه. ومن هذا المنظور له، إمكان أن يتبع القاعدة، أو ألا يتبعها. وعليه فإن ما يعد «خطأ» أو «مخالفة» أو»تقصيرا» من الكاتب، إنْ هو إلا حرْف قاعدة أو حيْد عنها، بل ليس ثمة خطأ أو مخالفة أو تقصير دون قاعدة، وكذا العكس بالعكس.
أهم ما نخلص إليه من هذه الافتراضات، أنه من الصعوبة بمكان أن نرى في معيارية القاعدة أي شكل من أشكال «نقاء النوع» باعتباره نوعا نظريا ثابتا، ينبغي أن لا يمتزج بغيره. على حين أن المبدع أو المنشئ يسهم في هذا التقليد إما بتحقيق الاحتمالات الكامنة فيه، أي تلك التي لم يدركها أسلافه؛ كأن يعيد تجميع التقاليد الأشد عراقة، ويفتتح فيها وبها سبيلا غير مطروقة، أو حتى بالانقطاع عن التقليد نفسه. ومن هذا المنظور يمكن أن نقف على خصائص السرد غير الطبيعي، وأن ننظر في العمل السردي والأدبي عامة على أنه نوع تاريخي متحول له خصائصه، أو أن أساسه مغامرة الذات اللغوية.
كاتب وشاعر تونسي
/ من الصعوبة بمكان أن نرى في معيارية القاعدة أي شكل من أشكال «نقاء النوع» باعتباره نوعا نظريا ثابتا، ينبغي أن لا يمتزج بغيره. / انتهاء
ليس هناك على وجه الأرض شيء اسمه «نقاء النوع» باعتباره نوعا نظريا ثابتا، ينبغي أن لا يمتزج بغيره.. مفهوم «نقاء النوع» في أي شكل من أشكاله إنما هو في الأصل مفهوم فاشي وعنصري وعرقي وشوفيني إلخ إلخ إلخ بالدرجة الأولى..
برافو عليك يا سيدتي نينار إسبر على هذا القول الحاذق والصارم سلمت لي سيدتي المبجّلة وأقبل يديك وقدميك بكل غبطة وبهجة
قضية نقاء النوع الادبي ليست الموضوع الاساس في كتابي الذي حوله دارت مقالة الاستاذ منصف الوهايبي ومن يهمه الاطلاع على رأيي فيها فليعد الى كتابي (نحو نظرية عابرة للأجناس)… ولكن اهتمامي بدراسة العواطف في علم السرد غير الطبيعي قادني إلى الوقوف عند مبادئ (واين بوث) العقلية التي بموجبها عد َّالسرد علما وعلى هذه المبادئ سيبني منظرو علم السرد ما بعد الكلاسيكي والسرد غير الطبيعي طروحاتهم وتنظيراتهم. ومن تلك المبادئ أن لا نقاء خالصا للفن وذلك من ناحية وجود العواطف وما عليها من مؤثرات وما لها من تأثيرات. و(من يطلب النقاء فسيجد أن الاخلاق والعواطف هي المصدر الرئيس لعدم النقاء الأدبي. ) ..ولكم تحياتي.
اتفق مع الكتب ان ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها.لان اي جنس أدبي لديه هامش ابداع خاص يتسع وينكمش حسب قدرة الكاتب.اما نقاء النوع فهو حالة نادرة لكنها كانت قائمة والان انحسرت.شكرا للوهايبي.
السيد منصف الوهايبي يتحدث مشكورا عن كتاب السيدة نادية هناوي «السرد غير الطبيعي» ولم يأتِ بشيء من عنده من حيث المبدأ، إذن الملاحظات النقدية البناءة من نينار إسبر موجهة إلى كتاب هناوي وليس إلى مقال الوهايبي –
لقد وضعت عبارة”نقاء النوع” بين علامتي تنصيص، تحفظا مني على هذا الاستعمال غير الدقيق.والمقصود هو النوع أو الجنس الأدبي. تحياتي لكم
شكرا أستاذ منصف على الرد والتوضيح وكما ترى ليس هناك شيء اسمه “هامش إبداع” ولا حتى “حالة نادرة من نقاء النوع” كما يخطل أحدهم
كل التحيات الطيبة
لم أُشَر إلى مفردة النقاء سوى مرة واحدة في كتابي وذلك في معرض إدراجي مبادئ ( واين بوث) العقلية ومنها( أن لا نقاء خالصاً للفن من ناحية وجود العواطف وما عليها من مؤثرات وما لها من تأثيرات فالعواطف هي أهم الهبات بالنسبة للكاتب)
ومن المهم هنا عزل المسألة الفنية عن المسائل الأخرى بدل هذا الربط الميكانيكي العاجل والمتعسف بين مفهوم نقاء النوع الادبي ومفاهيم العنصرية والعرقية والشوفينية والفاشية. فهذا مما لا يحتمل فيه أي نقاش اطلاقا. ولقد تطرق مقال الأستاذ منصف الوهايبي إلى مسائل أخرى جوهرية وذات اهمية تخص علم السرد غير الطبيعي، وفيها دلالة جلية على استيعابه لأهمية هذا العلم وجديته. ثم أن مفهوم نقاء النوع الأدبي ليس بالجديد، وسبق أن طرقناه في كتابنا( نحو نظرية عابرة للاجناس)