ربما استغرب البعض لدى سماعهم خبر زيارة الامير السعودي بندر بن سلطان، رئيس المخابرات السعودية، لروسيا وعرضه مليارات الدولارات بهدف التأثير على موقف روسيا ازاء سوريا. فما فلسفة السياسة الخارجية السعودية التي كانت تتصف بالصمت والهدوء، وتعمل في الخفاء معظم الاوقات.
سبق تلك الزيارة دعوة وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، في شهر يونيو روسيا للتوقف عن دعم النظام السوري بقوله: ‘روسيا لم يعد لها مبرر لتسليحها النظام السوري المجحف في حق شعبه، وان المملكة لن تقف مكتوفة الايدي لدعم الشعب السوري’، واصفا سوريا بانها (محتلة) في اشارة للدعم الذي قدمه حزب الله وايران لها. ليس الغريب ان تلعب السعودية دورا دبلوماسيا متقدما، بل ادعاؤها انها تدافع عن الشعب السوري، او انها تبحث عن حريته وتحريره من التدخلات الاجنبية. فماذا يقول هؤلاء المسؤولون عن تدخلهم العسكري المباشر في البحرين منذ قرابة الثلاثين شهرا؟
وماذا يقول هؤلاء المسؤولون عن معاملة شعبهم ورفضهم القيام باية اصلاحات سياسية توفر لمواطنيهم قدرا من الشراكة السياسية وتسمح بحرية الرأي وتحمي حقوق الانسان؟ فمن الضرورة بمكان، قبل الخوض في ابعاد السياسة السعودية التي اتخذت في الفترة الاخيرة ابعادا خطيرة لفرض حالة استقطاب غير مسبوقة في المنطقة، التمييز بين التحرر من انظمة الاستبداد التي هيمنت على دول العالم العربي على مدى اكثر من نصف قرن، واقامة مشاريع سياسية جديدة تتبنى قيم الاسلام التي تدعم الحريات العامة وتكرس مبدأ الشورى الشراكة السياسية وتحارب الفساد، وترفض الحكم الفردي او القبلي او الفئوي. انها قيم تسعى لتفعيل مفاهيم ‘الامة’ وربطها بثقافة ‘الملة’ بما هي انتماء ديني على اساس تعاقب الاديان وفق الرسالة الحنيفية التي جاء بها النبي ابراهيم عليه السلام.
ويخطئ من يعتقد ان الصراع بين المشروعين سياسي محض، فالبعد الديني لا ينفك عنه، بل ان هذا البعد هو الاخطر في المشروع السياسي السعودي، لانه مرتبط بفهم خاص للدين يقفز على ثوابت المسلمين، ويسعى لفرض فهم آخر للرسالات الالهية لتكريس مفاهيم ‘التفويض الالهي’ وتقديس ‘أولي الأمر’ وحرمة الخروج على الحاكم الظالم. ان تأميم الدين بهذه الطريقة ادى الى حالة التوتر التي كانت قائمة بين تياري الاصلاح والانفتاح والاجتهاد وانسانية الدين ومواءمته مع الاطروحات البشرية التي لا تتناقض مع روح الدين وجوهره، وبين ظاهرة الجمود على النص وتقديس التاريخ غير المنقح الذي كتب بتوجيه الطغيان السياسي والاستبداد، وهي ظاهرة يعبرعنها اليوم بـ ‘السلفية’.
ومع ان اغلب الحركات الاسلامية ‘اصولية’ او ‘سلفية’ بانتمائها لتاريخ الاسلام وشخوصه، الا ان السلفية السعودية منتقاة بشكل خاص، تحولت تدريجيا لتصبح اداة لدى الحكام ورفض تحديث انظمة الحكم بدعوى انها ‘بدعة’ وخدمة اغراض الحكم السعودي بغطاء ديني يضيق تدريجيا حتى يتحول الى حالة مذهبية ضيقة. انها مدرسة تتعارض مع مشروع ما يسمى ‘الاسلام السياسي’ الذي تنضوي تحته كافة حركات الاصلاح السياسي التي قمعت عبر العقود من قبل اتباع المدرسة السعودية، والمال النفطي الهائل.
الامر الذي كان واضحا لدى البعض قبل عامين، والذي اصبح واضحا لدى الاغلبية في الوقت الحاضر ان السعودية ملتزمة بمنظومتين متميزتين: سياسية ومذهبية تسخر كافة الامكانات المتاحة لها لتنفيذهما. فعلى الصعيد السياسي ترفض السعودية المشروع الديمقراطي جملة وتفصيلا، وتوجه سياساتها الداخلية والخارجية لمواجهته.
فهي تعلم باستحالة المواءمة بين منظومة الحكم المؤسسة على البداوة والقبلية من جهة ونظام الحكم القائم على اسس الديمقراطية واحترام الحريات والشراكة السياسية والتعددية والتداول على السلطة من جهة اخرى. والدين هنا يستغل لتبرير الاستبداد وشرعنة الظلم والغلبة بقوة المال والسلاح، برغم انه يرفض الاستبداد ويدعو للشورى ويدعم الحريات، بل ان مبدأ التوحيد الذي يتأسس عليه الدين لا يتحقق الا بمنح البشر حرية التفكير والاختيار ورفض الآلهة التي تفرض نفسها على البشر. مع ذلك فقد تم تأميم الدين ليصبح أداة تخدم المشروع السياسي الذي تتبناه السعودية وتفرضه بكافة الوسائل، مهما كان شكلها ووضاعتها. ولكي يتواصل هذا المفهوم وما قام عليه من مشاريع سياسية واطروحات، ولجت الحركات السلفية، واغلبها اصبح منسجما مع المشروع السعودي، الى العمل السياسي من كوات ضيقة، وتدرجت في مراتب الصعود السياسي حتى وصلت في بعض الاحيان الى السلطة، كما حدث في افغانستان قبل عشرين عاما حين وصلت حركة طالبان الى الحكم، وبدأت تنفذ اطروحاتها السياسية والدينية وفق المدرسة الوهابية.
وتتكرر التجربة في الوقت الحاضر، فيصبح القتل على الهوية واحدا من اهم خطوط الفصل بين الامة والنظام السياسي الذي تتبناه الرياض. الامة هنا تفقد مقوماتها لانها تتحول الى مذهب صغير يعادي من سواه ويقتل من يختلف معه في الرؤى الدينية واصول الاجتهاد. وبدون الامة لا يكون للمسلمين وجود ذو أثر.
فقد كان المسلمون أمة حين تعايشوا في ما بينهم وتفاهموا واتفقوا ضمنا على التعايش مع الاختلاف، وقبلوا ان يستظلوا بالاسلام مع احتفاظ كل فرقة بخصائصها، مع التوافق على الاسس المشتركة التي حددها الاسلام. اما اليوم فالمطلوب ان لا يتبلور مفهوم الامة، وتحقيق ذلك يستلزم تشطير الكيان الجامع الى فرق و ‘شيع’ وتحويل الخلافات الاجتهادية المشروعة الى خلافات تتبنى السيف والدم لاثبات وجود الاطراف المتناحرة. فالامة تتطلب مشروعا سياسيا منفتحا، يحترم الآخر ويتعاش معه ويشاطره العيش، سواء كان مسلما ام كافرا. وهنا يستبدل مفهوم ‘الامة’ بالمذهب، فيتم تصفية الاختلافات بين المدارس الفقهية والاجتهادية، ليس كما كان يحدث في العصور الاولى للاسلام، في اطار حلقات البحث ومن خلال علم الكلام والفلسفة والتباحث في اصول الفقه، بل بالقوة والمال. فهنا لا يعود لمدارس الفقه الاسلامي الاولى (البصرة والكوفة والمدينة) وجود حقيقي لان السجال العقلي محظور، يعتبره الحاكم المستبد خروجا على السلطان وتأسيسا للتمرد، ومدخلا لوصف اهله بـ ‘الخوارج’.
المشروع السياسي السعودي يتأسس على هذا الفهم الغريب للاسلام الذي يشوه مفاهيمه الاساسية مثل الدين والأمة والمذهب والاجتهاد والرأي والحرية. ولذلك سعت السعودية، خصوصا بعد وفاة جمال عبد الناصر في 1970 لفرض ثقافة مدعومة بالدولار النفطي خصوصا بعد ما سمي ‘الطفرة النفطية’ في منتصف السبعينات. وطوال العقود الثلاثة اللاحقة عملت الرياض لبث تلك الثقافة وتوسيع دائرتها خصوصا في شبه القارة الهندية.
وبعد انتهاء حرب افغانستان التي كانت ساحة خصبة لتكوين مجموعات مسلحة تحمل فكر المدرسة الفقهية المتحالفة مع نظام الحكم السعودي، تكفر الآخرين وترفض الديمقراطية والحريات العامة وفق منظور فقهي ضيق مؤسس على ما اسماه المرحوم الشيخ محمد الغزالي ‘فقه البداوة’. هذه المجموعات اصبحت تدريجيا في قبضة أجهزة الاستخبارات السعودية، وتحولت الى سلاح موجه ضد محاولات التغيير السياسي في المنطقة. وحين انطلقت ثورات الربيع العربي، فوجئت السعودية بها وسعت منذ الايام الاولى لافشال الحراكات الشعبية او احتوائها. وقد حققت السعودية اختراقا مهما في مصر باسقاط اول رئيس منتخب في هذا البلد العربي الكبير. وكانت الثورات الاخرى، ومن بينها الثورة السورية، واعدة بمستقبل يتميز بالحريات ويحقق ممارسات ديمقراطية معقولة. ولكن قوى الثورة المضادة التي تتزعمها السعودية استطاعت الالتفاف على الجماهير اللاهثة وراء الحرية، واسقاط التجربة الديمقراطية في مصر.
ومنذ اليوم الاول بعد سقوط مبارك، كانت السعودية تستثمر في المؤسسة العسكرية المصرية وتهيئ الظروف لانقضاضها على الخيار الشعبي بذرائع شتى وفي ظروف تمت هندستها بعناية من قبل تلك القوى. وفي غضون اسابيع من سقوط مبارك كانت حافلات الرياض تخترق الحدود مع البحرين وتنقض على ثورتها بقمع شديد غير مسبوق.
وهنا استخدمت السعودية ثلاثة اسلحة فتاكة: اولها السلاح العسكري الذي انفقت عليه المليارات، وثانيها سلاح الطائفية الفتاك ضد ثورة البحرين الوطنية السلمية، وثالثها الانفاق الهائل على شركات الدعاية والعلاقات العامة الغربية لوقف اي دعم سياسي او معنوي لثورات الربيع العربي. وتحقق للرياض شطرا واسعا مما خططت له. فاصبحت اكثر حماسا للاجهاز على بقية الثورات. ولكنها لم تستطع حتى الآن فرض ارادتها كاملة. فبعد ان حولت الثورة السورية الى حرب اهلية موجهة طائفيا بشكل كبير، ادركت اخيرا ان قدرتها على التأثير محدودة، فاصبحت تعمل بشكل مكشوف لاقناع الغربيين بالتدخل العسكري المباشر، كما حدث في تركيا. ولكن الموقف الروسي اصبح معوقا لذلك التدخل. فجاءت زيارة الامير بندر بن سلطان لموسكو وتقديمه عروضا اقتصادية كبيرة بعقد صفقات سلاح عملاقة مع روسيا في مقابل تغيير موقفها الداعم للنظام السوري والرافض للتدخل العسكري الغربي. الرياض خصصت في المرحلة الاولى 15 مليار دولار لهذه الصفقات، ولكن ليس واضحا بعد ما اذا كانت روسيا مستعدة لبيع موقفها في مقابل المال السعودي الضخم. الامر المؤكد ان السعودية تصدرت الآن بشكل واضح مشروع الثورة المضادة، مستخدمة علماء البلاط لتمزيق شمل الامة، والامبراطورية الاعلامية العملاقة التي تمتلكها والتي تروج الفرقة والتشطير والطائفية وتتصدى للتغيير الديمقراطي.
الامل ان يكون الانقلاب ضد الديمقراطية في مصر مدخلا لعهد جديد يسوده العقل والفطنة والنظرة الثاقبة والبصيرة خصوصا في اوساط النشطاء وطلائع التغيير وكوادر الحركات الاسلامية والديمقراطية. ومن مستلزمات افشال مشروع اجهاض الثورات ان يدرك من استدرج للمشروع السعودي الذي حقق اختراقا واضحا ضد ثورة مصر، ان التغيير لا يتحقق بمسايرة قوى الثورة المضادة، وان السعي لارضاء تلك القوى او اقناعها بـ ‘اعتدال’ الحركات الاسلامية لن يغير موقفها المضاد لتلك القوى.
لقد استغفل الاسلاميون خلال العامين الماضيين واستدرجوا الى معارك جانبية خصوصا المشادات الايديولوجية والخصومات الطائفية، بينما كانت قوى الثورة المضادة بقيادة السعودية تخطط ضدهم بكافة الوسائل، حتى وفرت الظروف لواحد من ابشع الانقلابات البيضاء ضد حكومة منتخبة. وبلغ الاعداد لذلك الانقلاب مستوى غير مسبوق. وتم استدراج رموز بعض الحركات الاسلامية لخوض المعركة الطائفية لاسباب متعددة، بل ان بعضهم كان رأس الحربة في اثارة الطائفية وتمزيق الصف وخلق البلبلة في صفوف الجماهير، واضعاف معنوياتها، وتمت هندسة الاوضاع الاجتماعية في مصر وتونس لتزداد ترديا وتراجعا لاعطاء الانطباع بفشل الاسلاميين في الحكم، وبالغ اعلام قوى الثورة المضادة في فرض صور نمطية سلبية للاسلاميين، ومورست اعمال عنف ضد مجموعات عديدة، صوفية وشيعية وليبرالية وسنية معتدلة، وتشكلت مرجعيات دينية مضادة لهم ساهمت في سحب القداسة الدينية عنهم. وحين اكتمل ذلك كله وحدث الانقلاب لم تذرف على سقوطهم دمعة عين، وتم تسويق مشروع العسكر وكأنه رحمة إلهية نزلت على المصريين. حدث ذلك كله في غفلة هؤلاء الاسلاميين الذين ساهموا، من حيث يعلمون او لا يعلمون، في استهداف انفسهم واضعاف موقعهم وشعبيتهم. فماذا بعد؟ الامر المؤكد ان السعودية لن تتراخى في استهداف المشروع التغييري في المنطقة، وعلى الاسلاميين، اذا ارادوا البقاء في الصف السياسي الاول، ان يقرروا موقفا واضحا ازاءها وازاء سياساتها. فهي لن ترضى بهم حكاما مهما فعلوا وقدموا من تنازلات. فالقضية في نظر قوى الثورة المضادة استراتيجية بالدرجة الاولى. وازاء هذه الحقائق اصبح امام الاسلاميين واحد من طريقين ليس لهما ثالث: فاما التراجع والتنازل عن مشروع الاسلام السياسي جملة وتفصيلا، والتحول اما الى وعاظ سلاطين او حركات صوفية بدون بعد سياسي، او التصدي لقوى الثورة المضادة وفرض الوجود بالحضور الجماهيري في كافة الساحات والميادين والشوارع، ودعم الثورات العربية السلمية الاخرى بدون استثناء، والتمرد بوضوح على المشروع السعودي المعادي للتغيير. ان التعاطي باستحياء مع القوى التي تخطط لاغتيال المشروع الاسلامي او محاولة التعايش مع انظمة الحكم السابقة مع تغييرات طفيفة في رأس الهرم، او الاعتماد للبقاء على ما يتمخض عن استرضاء الغربيين وما يتطلبه ذلك من مساومة على الاهداف والمبادىء الاساسية للمشروع الاسلامي، كل ذلك سيساهم في تقوية قوى الثورة المضادة واضعاف القوى الثورية و التغييرية ومن بينها الحركات الاسلامية. ما بين العناد المؤسس على المبدأ والثوابت والاعتماد على الغيب من جهة، وسياسة ‘التعايش’ مع قوى الثورة المضادة وما يستلزمه ذلك من تخل عن البعد السياسي للمشروع الاسلامي من جهة اخرى، دخل الصراع من اجل التغيير في العالم العربي، مرحلة خطيرة وحاسمة. وعلى الاسلاميين تدبر الامر سريعا واتخاذ القرار الذي يضمن لهم قدرتهم على التغيير السياسي والاستراتيجي، او التقهقر الى الصفوف الخلفية في معترك الحياة، وما يعنيه ذلك من تخل عن المشروع الاسلامي الذي قامت الحركات الاسلامية جميعا من اجله. القرار هذه المرة ينتظره العالم من القاهرة.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
كنت ستبدو منطقيا لو أتيت على ذكر إيران أيضا،فكلاهما السعودية وإيران صنوان ووجهان لعملة واحدة.ولكنك فضلت أن تتحاشى ذكر طهران
ديموقراطية الإسلام السياسي متجسدة حاليا لدى من يهمه الأمر ممن يعانون
الديموقراطية بطعم إسلاموي لا وجود للإسلام في التعامل اليومي مع حياة
من يعيشون تلك “التجربة” المريرة. فلا وجود لمظاهر الدولة أصلا حيث
تسونامي التغول لإرساء عبودية من طراز جديد ديدنها الكذب من قبل من كتبوا عند الله من الكذابين لأنه ليكذب أحدهم ويكذب فيكذب ثم يكذب حتى يكتب كذاب. من عقيده الكذب لن تكون له ديموقراطية بل فوضى مدوعمة بإرهاب
يخدم من يريدون أن يقضوا على كل مخالف لهم في فكر الإسلاموي “الحديث”
العهد بمن يجهلون مصيرهم إن لم يجعلوا حدا لديموقراطية الإسلام السياسي تلك.