مع مطلع السنة الجارية بدأت دول العالم تعلن الميزانية العسكرية لجيوشها، وهو تقليد بدأ يترسخ بعدما كانت هذه الميزانيات من ضمن الأسرار بل بدأت بعض الدول تنشر جزءا من معطياتها التي كانت حتى الأمس القريب سرية، وذلك من خلال ما يسمى بالكتاب الأبيض للدفاع. وتستمر الدول الكبرى في تخصيص ميزانيات للدفاع مناسبة مع حجم جيوشها ومسؤولياتها الدولية والإنتاج القومي الخام للبلاد باستثناء دولة واحدة في العالم وهي العربية السعودية، ثالث أكبر ميزانية للدفاع ولكنها تحتاج إلى دول تؤمن لها الحماية. وهو ما يشكل أكبر مفارقة في التاريخ العسكري.
وبلغ حجم الانفاق العسكري في العالم سنة 2018 ما يفوق ألفي مليار دولار سنويا، تتصدر الولايات المتحدة بميزانية تقارب 630 مليار دولار، أي ثلث الانفاق العالمي. وتبقى هذه الميزانية منطقية لأسباب أهمها حجم الجيش الأمريكي عددا وحجم الترسانة العملاقة التي تضم أساطيل ضخمة وطائرات مقاتلات وأسلحة نووية ضمن عتاد آخر علاوة على التواجد الجغرافي المتشعب، حيث تتوفر على قواعد معلنة وسرية تفوق المائة منتشرة في العالم. ويضاف إلى هذا توليها المسؤولية الكبرى في الحلف الأطلسي، مما جعل الرئيس الحالي دونالد ترامب يطالب الدول الأوروبية بالرفع من ميزانياتها العسكرية لتقليل الضغط المالي على البنتاغون.
وفي المركز الثاني تأتي الصين بقرابة 230 مليار دولار، وهي ميزانية منطقية بحكم حجم الجيش الصيني البالغ مليوني و350 ألف ورهان بكين على صناعة عسكرية متطورة تتطلب استثمارات قوية وبدأ الانتشار الصيني في الخارج ضمن حلم تحول هذا البلد إلى ريادة العالم في منتصف القرن الجاري بدلا من الولايات المتحدة.
وتأتي العربية السعودية في المركز الثالث بقرابة 70 مليار دولار، ثم روسيا بـ 66 مليار دولار، وتحتل الهند المركز الخامس بـ 63 مليار دولار ثم تأتي دول كبيرة وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا. وباستثناء العربية السعودية، لا تتجاوز ميزانية الدول الكبرى 4% من الإنتاج القومي الخام بل الأغلبية دون 2%.
وتعد العربية السعودية الاستثناء الحقيقي في التاريخ العسكري بسبب الميزانية العسكرية الضخمة التي لا تتناسب وطموحاتها الدولية ولا تعكس قوتها الدفاعية عن مصالح البلاد ولا حجم تسليحها وجيوشها. وهكذا، تبلغ الميزانية العسكرية للسعودية 70 مليار دولار، قرابة 10% من الإنتاج القومي، وهذا المعدل يعادل ما كانت تنفقه الولايات المتحدة في حالة استثنائية وحرجة للغاية وهي مرحلة الخمسينيات إبان ذروة الحرب الباردة، حيث تطلب منها الأمر الانتشار في العالم وبأسلحة نووية وبناء حاملات طائرات. وعربيا، تتفوق ميزانية السعودية على مجموع ميزانيات الدول العربية كلها.
لكن أين تتجلى المفارقات الصارخة عسكريا وتاريخيا في حالة السعودية؟
في المقام الأول، الميزانية الكبيرة لا تضمن التفوق العسكري والانتصار في الحروب. وتبقى السعودية الدولة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها بدون اتفاقيات عسكرية مع دول أخرى وخاصة الغربية. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بليغا عندما قال إنه بدون حماية أمريكية لا يمكن لطائرة الملك سلمان بن عبد العزيز الطيران. وفي الاتجاه نفسه ذهب أعضاء من مجلس الشيوخ الذين قالوا بأنه لولا الحماية الأمريكية لكانت السعودية شيعية من زمان. تصريحات تأتي من أكبر حليف عسكري للرياض لأنه أدرى بإمكانيات السعودية المحدودة عسكريا. ومن ضمن الأمثلة التاريخية فقد استعانت السعودية بجيوش غربية وعربية جرارة سنة 1990 لحمايتها من دولة كانت منهوكة عسكريا وخرجت لتوها من حرب ثماني سنوات في مواجهة إيران وهي العراق، حيث خافت السعودية أن تكون الهدف الثاني بعد الغزو العراقي للكويت.
في المقام الثاني لا يمكن للجيش السعودي التحرك حربيا بدون تنسيق ومساعدة من الدول الغربية التي توفر له الدعم اللوجيستي، فقد فشلت السعودية وهي تتزعم “عاصفة الحزم” ودول مثل الإمارات العربية ومصر والبحرين في الانتصار على حركة الحوثيين الذين لا تتجاوز ميزانيتهم العسكرية مئة مليون دولار في أحسن الأحوال. وميزانية السعودية تتجاوز بـ 700 مرة ميزانية الحوثيين.
في المقام الثالث السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تخصص ميزانية تقارب 70 مليار دولار سنويا ولكنها لا تتوفر على صناعة عسكرية. وإذا أخذنا دول غربية مثل فرنسا، فميزانيتها لا تتجاوز 57 مليار دولار ولكنها تتوفر على صناعة عسكرية صلبة. وفي الوقت ذاته، إذا أخذنا دولة حديثة التصنيع مثل كوريا الجنوبية أو تركيا، سنجدها أنها تتوفر على صناعة عسكرية واعدة بدأت تلبي بعض احتياجاتها الدفاعية والهجومية وتتنقل إلى التصدير. وكانت جريدة نيويورك تايمز بليغة عندما سخرت من السعودية بقولها “كيف ستصنع الرياض أسلحة نووية وهي لا تصنع حتى السيارة”، وذلك عندما هددت الرياض بصناعة القنبلة النووية ردا على مخططات إيران.
في المقام الرابع، الميزانية الضخمة لا تضمن حرية التوقيع على صفقات الأسلحة، ورغم رغبة الرياض في اقتناء أسلحة متطورة تلقى معارضة عدد من برلمانات العالم لأسباب سياسية، والآن تفاقمت بسبب السجل الأسود لحقوق الإنسان لاسيما بعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي والمعارضة الشديدة للكونغرس الأمريكي بيع الرياض أسلحة. ورغم الحديث عن الصفقات الكبيرة للسعودية مثل صفقة 400 مليار دولار ونزلت إلى مئة مليار دولار، تبقى في الواقع مفرقعات إعلامية من باب “فاك نيوز” ينبهر الكثيرون بأرقامها بدون العودة إلى البحث عن الصفقات الحقيقية. ارتباطا بهذا، سنعود إلى وثيقة سابقة نشرناها السنة الماضية في جريدة “القدس العربي” (6 فبراير/شباط 2018) وتقول “أهم الوثائق الدقيقة حول مبيعات الأسلحة في العالم هي التقارير الصادرة عن «مصلحة الكونغرس للدراسات» أو «مصلحة الكونغرس للبحث»، وهو جهاز مرتبط بالكونغرس الأمريكي، وتعتبر تقاريره ذات مستوى عال جدا، وفي أغلب الأحيان تكون سرية مع بعض الاستثناءات، حيث يتم الإفراج عن بعض الوثائق والتقارير. وفي تقرير لهذه المصلحة صدر منذ سنة حول مبيعات الأسلحة في العالم ما بين 2008 إلى 2015، يبرز أن العربية السعودية اقتنت ما قيمته 30 مليار دولار من الأسلحة، أكثر من 16 مليار دولار من الولايات المتحدة و11 مليارا و400 مليون دولار من دول أوروبا الغربية ومليار و600 مليون دولار من أوروبا الشرقية ومليار و300 مليون دولار من الصين. وهذا يعني اقتناء هذا البلد ما قيمته أربعة مليارات و200 مليون دولار سنويا، واقتنت من الولايات المتحدة مليارين و300 مليون دولار سنويا. وهذه الأرقام تهم الأسلحة التي جرى تسليمها فعليا إلى الجيش السعودي ومنها مقاتلات إف 15، وليس الحديث عن صفقات جرى التوقيع عليها ولم تنفذ”.
وتتمة لهذه النقطة، لا تعني 30 مليار دولار في الصفقات هي أسلحة محضة بل تتضمن شراء الأسلحة، وهو ما يشكل فقط 50% ثم الصيانة والتدريب التي تشكل ما بين 20% إلى 30% بينما الباقي هو عمولات ورشاوى. وقد رافقت صفقات الأسلحة فضائح كبيرة. ويمكن انتشال فضيحة اليمامة من الأرشيف وكيف طالب أمراء سعوديون برفع قيمة طائرات التورنادو بنسبة 35% من قيمتها الحقيقية ليتسنى لهم الرفع من عمولاتهم المباشرة ثم الرشاوى. وعمليا، باستثناء صفقة اقتناء طائرات ف 15 الأمريكية خلال العشرين سنة الأخيرة وخاصة صفقة كانون الأول/ ديسمبر 2011 والتي قيمتها 29 مليار دولار ستمتد على عشر سنوات تضم أسلحة أخرى غير الطائرات المقاتلة، أي حتى 2021، لا توجد صفقات كبرى للعربية السعودية عكس ما يروج له الإعلام.
وعلى ضوء كل هذا: هل الميزانية التي تخصصها السعودية للقطاع العسكري ما يقارب 70 مليار دولار صحيحة؟ وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة أين تذهب؟ لكن المعطى الواقعي هو أن الميزانية العسكرية السعودية هي الأكثر مفارقة في التاريخ العسكري، ميزانية ضخمة وعجز للجيش في تحقيق انتصارات أو الدفاع عن الوطن بدون مساعدة الغرب، وفي حرب اليمن خير دليل.
قبل ولاية بن سلمان تحجج محور أعداء العرب أن السعودية منهوبة من آلاف أمراء ومتنفذين وتضطهد نساء وأديان وأرامكو ملك آل سعود والسعودية والإمارات تكدس أسلحة بمليارات لتصدأ، والآن يبكي محور أعداء العرب ملاحقة السعودية أمراء ومتنفذين ورفع ظلم نساء وأديان وتحول أرامكو لمساهمة عامة بقيمة سوقية 2 تريليون وينصدم المحور لاستعمال السعودية والإمارات أسلحتها لصد عدوان حرس ثوري على الجزيرة العربية بقوة عربية هائلة غير قابلة للاستنزاف بل استنزاف موارد ولي فقيه وداعميه وأذنابه حتى انتفضت شعوب إيران والعراق عليها
في الماضي كان الأمراء يسرقون لشراء لوحات بمليون أو مليوني دولار، والآن هناك أمير واحد منع الجميع واشترى هو لوحة واحدة ب 450 مليون دولار، في الماضي كان الأمراء يوقعون اتفاقيات لشراء أسلحة ويأخذون عملات، والآن أصبح هناك أمير واحد يوقع صفقات ويأخذ العمولات لوحده لشراء أغلى لوحة وأغلى يخت وأغلى قصر في العالم، لكنه عجز عن شراء أحسن طائرة مقاتلة في العالم، وأحسن صاروخ في العالم، وأحسن سفينة حربية في العالم، وهنا يلتقي مع الأمراء السابقين في شراء الخردة. وأظهرت حرب اليمن هشاشة التسلح السعودي. وأصبح خادم الحرمين يحتمي بحامي البيت الأبيض، يا لمكر التاريخ.