خرج الناشط الحقوقي محمد البجادي من السجن تماما كما دخله بالصدفة. كان اعتقاله ومحاكمته تعديا على ابسط الحقوق والتي منها دفاعه عن المعتقلين السياسيين ضمن نطاق عمله في جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية المعروفة بحسم وكأن من اول المعتقلين في مسلسل طويل شمل بعدها مؤسسي الجمعية الذين بدورهم صدرت بحقهم مذكرات اعتقال ومحاكمات ادخلتهم جميعا للسجن ومنهم القاضي سليمان الرشودي ومحمد القحطاني وعبد الله الحامد. تابع السعوديون والعالم تفاصيل هذه المحاكمات والاتهامات التي كانت تفتقد لأي قاعدة حقوقية بل كانت موغلة بتسيسها لنشاط سلمي تصدره جيل قديم من الناشطين استطاع ان يحرك المياه الراكدة بمساعدة جيل شاب أبى ان يستسلم لقرارات السلطة التعسفية التي جعلت من الاعتقال سياسة دولة غير قادرة على حسم هذا الملف الشائك المستحق منذ فترة طويلة.
وتظل سلسلة الاتهامات الموجهة للناشطين طويلة مبهمة منها الافتئات على ولي الامر وتشويه سمعة الدولة والتواصل مع الاعلام العالمي وقراءة كتب ممنوعة والتحريض ضد النظام وتشجيع الاعتصامات وتعطيل التنمية حيث تبقى مثل هذه الاتهامات واجهة لقمع اي نشاط سلمي تذكرنا بحالات سابقة مثل نظام الاتحاد السوفييتي الذي كان ينقض على الناشطين بتهم لا تصمد امام اي قضاء او محاكمة عادلة. خذ مثلا مطالعة الكتب الممنوعة او المقالات التي يحجبها النظام ومنها كتب تاريخية او مقالات نشرت في جريدة ‘القدس العربي’ لكاتبة هذا المقال حيث يعتبر النظام السعودي مثل هذه الادبيات اكاديمية كانت او صحافية خطرا على الدولة والغريب ان في عصر العولمة والاتصالات حيث يتداول المطلع على طيف كبير من المعلومات لا تزال السلطة السعودية تطمح في حجب ما لا يعجبها وتجرم من يتداولها. ولا يمكن ان نجزم ان مثل هذه الادبيات لها قيمة ثورية او خطر على السلطة الا اذا سلمنا جدلا بالخطاب السعودي الرسمي الذي يعتبرها هكذا ويلاحق من يقتنيها او يحفظها على شاشات حاسوبه الآلي. لكن الاهم في سلسلة الاتهامات من منظور السلطة ربما يكون قدرة الناشطين على الحشد ودعوتهم للاعتصامات السلمية التي برزت بوضوح خلال الثلاثة اعوام السابقة مناصرة للسجناء السياسيين او سجناء الرأي ونعتقد ان هذه القدرة على تفعيل الحراك السلمي هو بالفعل ما يخيف السلطة السعودية وليس الادبيات الممنوعة التي اعطتها بعدا يفوق حجمها وقدرتها على الحراك او شحن الجمهور في الداخل او رفع مستوى الوعي بالتاريخ والسياسة. الا ان ورود مثل هذه الادبيات في لائحة الاتهامات يعني بالفعل ان السلطة لا زالت تحاول جاهدة في ابعاد المواطن عن اي خطاب آخر يفكك ابجديات الاستبداد السياسي والتشويه التاريخي للمخيلة الجمعية والذاكرة التي يريدها النظام ان تكون مرآة تعكس الخطاب الواحد الصادر عن المراكز الرسمية للابحاث والاعلام فتتحول أي محاولة لاعطاء رأي آخر او تحليل مخالف للخط الرسمي الى خطر على الوعي الجمعي وتهديد لامن النظام. ولا نجزم ان لهذه الادبيات المخالفة للخط الرسمي من القوة والتأثير ما يجعلها تهمة يساق بموجبها القارئ الى الزنزانات حيث غرور الكاتب يتوقف عند مشاهدة التضحيات التي يقوم بها الناشطون خاصة وانهم يتحركون ضمن اطار نظام مهتز ينتهج سياسة الاعتقال التعسفي ويضيق على العمل الحقوقي فكتابة الحروف من خارج المملكة ليس بشجاعة عندما نقارن ذلك بما يحدث لهؤلاء الناشطين واسرهم من ظلم على خلفية ممارسة حق التعبير والحراك ضمن الاطر السلمية لمناصرة قضايا تهمهم وتهم اسرهم الا ان النظام السعودي قد جعل اقتناء مثل هذه الادبيات تهمة ضمن تهم متعددة تقود الافراد الى السجن وهو بذلك اعطاها أبعادا اخرى عندما حول اقتناءها الى جريمة تستوجب العقاب.
وان اراد النظام السعودي ان يحصن الجبهة الداخلية ضد الادبيات المغايرة لخطه الرسمي عليه ان يتبنى سياسة جديدة ولا يشغل نفسه بملاحقة القراء.
هذا التحصين يتطلب اولا واخيرا تفعيل حق حرية التعبير والنقد دون ملاحقة من قبل السلطات خاصة وان مثل هذه الملاحقة تعتبر معركة خاسرة في العصر الحالي حيث اثبتت ان الافكار لم تعد محصورة في محيطها المحلي بل هي تسافر الى ابعد من ذلك مهما انفقت الانظمة على آليات الحجب والملاحقة القانونية. الا ان النظام السعودي لا يزال يفكر بعقلية قديمة سبقت تطور العولمة وابعادها. ثانيا على النظام السعودي ان يفك الحجر على مؤسسات المجتمع المدني المستقلة ويعطيها غطاء قانونيا لتدخل السعودية الى عصر الدولة الحديثة ومن اهم هذه المؤسسات جمعيات حقوق الانسان التي لا تخضع للارادة الرسمية فتكون بالفعل مستقلة كمساحة للدفاع عن المجتمع وافراده ضد تغول الدولة ومؤسساتها الرسمية فتحد من الانتهاكات المبرمجة. عندها فقط ستجد السلطة السعودية انها توفر مساحة شرعية لشعبها في الداخل ان يتحول من شعب معزول الى آخر يشارك في الدفاع عن حقوقه. وان كانت الدولة السعودية بالفعل قوية محصنة واثقة من نفسها مدعومة بقوة الثروة النفطية والتنمية لن يؤثر عليها العمل السلمي المستقل الذي يمتص طاقة الشباب فيشعر هؤلاء انهم جزء من بناء الوطن وليس فقط رعية مجبورة على امرها وتكسب بذلك نصرا يحسب على ايجابياتها قبل ان يفقد الكثيرون الامل في اصلاحها ويتجهون الى مصادمة تكون اكثر خطرا من جمعية حقوق انسان او مؤسسة مجتمع مدني. ثالثا على النظام السعودي ان يحسم ملف الاعتقالات العشوائية فيحاكم المجرم الحقيقي ويطلق سراح المعتقل السياسي او الناشط الحقوقي وهو بذلك يبرهن حسن نيته ويمتص الغضب الشعبي والشعور بالظلم خاصة الذي طال اعضاء جمعية حسم وذويهم بالاضافة الى مئات المعتقلين الآخرين.
ويأتي ذلك ليس عن طريق العفو الملكي المعتاد اذ ان العفو يكون من نصيب المجرمين وليس اولئك الابرياء من تهم حقيقية بل عن طريق الاعتراف بأخطاء السلطة عندما بدأت مسلسل الاعتقالات الطويل وتعويضهم عن السنوات التي قضوها في السجن ولا بد أن نذكر ان الاعتراف بالخطأ ليس علامة ضعف بل سيكون علامة قوة تعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم الى نصابها الطبيعي حيث ينتفي العنف السلطوي ليحل مكانه علاقة تعاقدية تحدد واجبات السلطة التي من اهمها حفظ امن المواطن الفكري والسياسي والانساني وعدم انتهاك حريته في التعبير والحراك. وليس المساهمة في هذه الانتهاكات وتبريرها من قبل الصحافة الرسمية ضمن دائرة تستدعي تهم الارهاب او غيرها.
ولن ينفع النظام السعودي تجاهل ملف معتقلي الرأي او الاستمرار في سياسة النفي. حيث لذلك تبعات محلية وعالمية اذ انها تساهم في احتقان الشارع السعودي وتعجل في تململه وشعوره بالظلم وتكرس صورة السعودية خارجيا كدولة تنعدم فيها ابسط الحقوق المدنية والسياسية. فالسعودية لا زالت دولة مشغولة بسمعتها عالميا التي تحاول تحسينها دوما لكن اخبار الاعتقالات والانتهاكات لا يمكن لها الا ان تنال من هذه الصورة التي لن يبددها الا التزام السعودية بمواثيق دولية وحقوق عالمية والتعامل مع ملف السجناء السياسيين حسب هذه المواثيق.
فالحجر على هذا الملف في اروقة الوزارات المعنية لن يلغي هذه الحقوق ولن يوقف الحراك ضدها مهما سجن النظام الناشطين فالشفافية وحدها وفتح ابواب السجون لمراقبين محليين لكشف خفاياها هو وحده الكفيل بطي صفحة السرية والاتهامات المضادة وقطع الطريق عليها وبذلك يكون النظام قد حصن نفسه ومجتمعه من الخطر المزعوم الذي تحمله ادبيات او افكار تطرح في الخارج تعتبرها السلطة جريمة تعاقب عليها بالسجن وعلى النظام السعودي ان كان بالفعل قويا ان لا ينجر الى المزيد من العنف القضائي والملاحقات السطحية للناشطين فهذا لن يصب في مصلحته وسنيقلب عليه عاجلا ام اجلا لان المجتمع اصبح اليوم اكثر وعيا بحقوقه الشرعية التي لا يمكن للسلطة السياسية او القانونية مصادرتها الى الابد.
وسيعلم ان القبضة الحديدية التي يتغنى بها لم تعد تخيف جيلا جديدا من الحقوقيين او الناشطين فهذه القبضة ليست عامل ردع بل تحولت الى حافز شجع الكثير من الشباب الجديد ان يلتحق بمسيرة المطالبة بالحقوق ولو كان الثمن باهظا تماما كما اثبتت سيرة محمد البجادي الناشط الذي افرجت عنه السلطة السعودية مؤخرا.
ولا ننسى الناشطين القدامى الذين لم تثنهم حقبات السجن القديمة عن مواصلة نشاطهم ودخولهم الى السجون للمرة الثالثة او الرابعة ومع كل تجربة سجن نجد ان اصرارهم على تكملة المسيرة يزداد بدل ان يضعف وهذا يثبت ان السجون لم تعد تخيفهم او تردعهم ومنهم ومن تجربتهم يتعلم جيل جديد فنون المقاومة للظلم ويصر على مواصلة المسيرة وتتبع خطاهم.
قد يبدو الحل بسيطا يتلخص بتحرير السجون وهذا اليوم بيد السلطة وعندنا امل ان تستجيب ايجابيا لانهاء ملف الاعتقالات قبل ان يفرض عليها ليس من الخارج او من ثرثرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الافراضية بل من حراك حقيقي قد يتبلور في ظل غياب النية الحسنة والعمل الجاد في سبيل انهاء ذلك الجرح العميق فقد حان الوقت لكتابة المسلسل الاخير في سلسلة ملف الاعتقالات الجائرة.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
مشكلة هذا النظام أنه لا يتعلم ممن حوله
من الطغاة الذين اقتلعتهم شعوبهم و صاروا
إلى مزبلة التاريخ ، و غداً لناظره قريب .