إن قرار إدارة دونالد ترامب وقف المساهمة الأمريكية في تمويل وكالة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وهي مساهمة كانت تغطّي حوالي ثلث ميزانية الوكالة التي تفوق مليار دولار سنوياً، إن ذلك القرار أخطر بكثير من كونه تعبيراً عن الأنانية البخيلة التي غدت علامة فارقة في سياسة الإدارة الأكثر تعصباً قومياً ويمينية في تاريخ الولايات المتّحدة.
ذلك أن هذا القرار يندرج في مسعى مشترك بين جماعة ترامب (ويلعب فيها صهره جاريد كوشنر دوراً بارزاً) وحكومة أقصى اليمين الصهيوني التي يتزعمّها بنيامين نتنياهو، يرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية وإلغائها نهائياً من جدول اهتمامات دولتيهما. فإن واشنطن تحت رئاسة ترامب وبالتنسيق مع إسرائيل تنقضّ على عمود تلو الآخر من أعمدة القضية الفلسطينية الأساسية التي أرجأت اتفاقية أوسلو البحث بها قبل ربع قرن (يصادف يوم الخميس في الأسبوع القادم ذكرى انقضاء خمس وعشرين سنة على توقيعها في واشنطن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993). وللتذكير، فإن المواضيع التي قرّرت الاتفاقية المشؤومة إرجاء البحث بها إلى السنوات اللاحقة شملت ثلاث مسائل هي في صميم قضية فلسطين، ألا وهي القدس واللاجئون والمستوطنات.
وبعد أن أفصحت جماعة ترامب بكل وضوح عن نيّتها تصفية قضية القدس وذلك باعترافها بمدينة السلام عاصمة لدولة الحرب الصهيونية، ها إنها تعلن صراحة نيّتها تصفية قضية اللاجئين من خلال هجومها على الأونروا. والحال أن حجة جماعة ترامب الرئيسية ضد وكالة الغوث هي عينها حجة الحكومة الصهيونية في أن تعريف اللاجئين الفلسطينيين الذي تعمل به الوكالة لا يقتصر على اللاجئين الأوائل الذين تم تسجيلهم لديها عند إنشائها في نهاية عام 1949، بل يشمل أنجالهم وفق القاعدة ذاتها التي تتّبعها المفوّضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين إزاء لاجئين آخرين.
ويقضي المنطق التصفوي بحصر صفة اللاجئين الفلسطينيين بمن لا زالوا على قيد الحياة ممّن وُلدوا قبل وقوع النكبة وتم تسجيلهم لدى الوكالة عند نشأتها، أي حوالي خمسين ألف رجل وامرأة في أقصى تقدير (لعام 2012). ومن نافل القول أن حصر اللاجئين الفلسطينيين بهذا العدد يعني تجريد أنجالهم الذين يناهز عددهم الخمسة ملايين من الفلسطينيين، تجريدهم من الحقوق التي نصّ عليها القرار 194 الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية عام 1948 والذي نصّ على «وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر».
يقضي المنطق التصفوي بحصر صفة اللاجئين الفلسطينيين بمن لا زالوا على قيد الحياة ممّن وُلدوا قبل وقوع النكبة وتم تسجيلهم لدى الوكالة عند نشأتها
أما المستوطنات الصهيونية، فتتجه جماعة ترامب إلى الإقرار بضمّها رسمياً إلى دولة إسرائيل مع القسم الأعظم من مساحة الضفّة الغربية المحتلّة منذ عام 1967، وذلك من خلال الإعلان الوشيك عن مسخرة «صفقة القرن» التي ليس الغرض منها سوى التمهيد لذلك الضمّ الرسمي، كما سبق أن شرحنا على هذه الصفحات بالذات.
وبكل ذلك تنجلي بالكامل صحّة رأي الذين انتقدوا اتفاقية أوسلو وأدانوا تفاوض الثنائي المكوّن من ياسر عرفات ومحمود عبّاس من وراء ظهور سائر أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية، شأنهم في ذلك شأن مفاوضي الداخل وأبرزهم حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني وحنان عشراوي. ومن المعروف أن أهمّ ما استنكره هؤلاء، ولاسيما مفاوضو الداخل، هو تحديداً قبول عرفات وعبّاس بعقد اتفاقية لا تحتوي على أي مبدأ خاص بالمسائل الثلاث التي أرجأت أوسلو البحث بها.
أما خلفية الخلاف فكانت أن المعارضين رأوا أن تقسيم القضية على النحو الذي تمّ في أوسلو يُضعفها مثلما أضعفت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل الجبهة العربية برمّتها، وينذر بعواقب وخيمة إزاء مصير المستوطنات والقدس واللاجئين. وفي المقابل، استند انفراد عرفات وعبّاس بالاتفاقية المشؤومة إلى مواصلتهما نهج الاتّكال على أمريكا، ذلك النهج الذي دشّنه ياسر عرفات عندما قبل بخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت سنة 1982 لقاء إعلان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان تبنّيه لمشروع «كيان فلسطيني» (في الضفة الغربية وباتحاد مع الأردن). وكانت ذريعة ياسر عرفات أن أوراق اللعبة جميعاً بيد أمريكا، فبدل أن يستخلص من ذلك ضرورة تصعيد الضغط على واشنطن بوصفها العدوّ الأكبر، استنتج أنه ينبغي الاتّكال عليها وعلى أصدقائها العرب وعلى رأسهم المملكة السعودية. ولم يستدرك أبو عمّار خطأه إلّا بعد فوات الأوان، أي بعد أن وصل إلى الحكم في واشنطن فريق جورج دبليو بوش الذي تحالف مع أقصى اليمين الصهيوني بزعامة آرييل شارون.
جماعة ترامب تقضي بلا رحمة على آخر الأوهام التي تمسّك بها عبّاس تمسّكه بحبال الهواء تبريراً لممارسته «السلطة»
أما محمود عبّاس فاستمرّ على النهج ذاته بالرغم من تجلّي فشله، وهو ما جعل إدارة بوش تسعى وراء فرض عبّاس على أبو عمّار بصفته رئيساً للوزراء ومن ثم فرضه على الشعب الفلسطيني خلفاً لأبي عمّار في رئاسة «السلطة الفلسطينية» بعد اغتيال هذا الأخير. وها إن جماعة ترامب تقضي بلا رحمة على آخر الأوهام التي تمسّك بها عبّاس تمسّكه بحبال الهواء تبريراً لممارسته «السلطة» على كيان هو أشبه بالكيانات الكرتونية التي كانت دولة التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية قد خلقتها تحت تسمية بانتوستان. وباستكمال مسعى ترامب ونتانياهو لتصفية القضية الفلسطينية، ستنتهي «السلطة الفلسطينية» إلى صفة البانتوستان رسمياً بعد أن كانت في حالة البانتوستان فعلياً منذ نشأتها، وينتهي مع ذلك سراب «الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس» الذي تمّ تبرير أوسلو بالإشارة إليه وكأنّه يلوح في الأفق.
*كاتب وأكاديمي من لبنان