أزفت ساعة السقوط المريع لتعلن الولادة الجديدة لسوريا. فجأة تغيّر كل شيء.. الحواجز حُطمت وانقشع ضباب الحقيقة، واندفع الرجال.. الرجال من الشمال والجنوب، فحطموا المتاريس واقتحموا الحصون؛ ليضيّقوا الخناق على أذرع السفاح. كل شيء قد تغيّر.. تغيرت الأسماء وأشكال الساحات، واندفع الناس- الفرحين والمذهولين بآنٍ معاً – من كل حدب وصوب وسقطت تماثيل هُبل ويعوق ونسرا، وعلى الطرقات كثر حطام البقايا من آليّات الرعب المنسحبة، وتناثرت الأشلاء البريئة بقصف الطائرات الروسية المغيرة.
وتناقضت الأقوال والتصاريح، وتاهت الاتجاهات، وتغيّرت الخرائط، ويبدأ المشهد المنتظر بالتمدد، والتحولات تأخذ مجرى لها نحو العاصمة، وحبس الأنفاس الدولية والإقليمية والترقب – رغم التفاهمات الحاصلة مسبقاً – سبقت أعين السوريين لما سيحدث لاحقاً. وبدأ الرحيل والترحال من موتٍ إلى موتٍ آخر.
هناك في مكان آخر، لم يدرِ النائمون تكديساً وراء الجدران والأبواب الموصدة، وفي غياهب الظلام القاتل، وصمت الموتى الأحياء؛ أن ثمة حراكا قد قض مضاجع اعتقالهم المديد. لم يدرك هؤلاء القابعون وراء القضبان، ووراء أبواب غرف الموت والإعدام أن هناك من يطرق عليهم خزان موتهم لتحريرهم، ولم تدرك تلك الأجساد النحيلة والعيون الغائرة والظهور التي تقوست – ليس لأنها على أعتاب الكهولة، ولكنها كهولة الشباب نتيجة تعذيب السجان وقسوة السجن- إن فجر الحرية بزغ. لقد حسب هؤلاء أن ساعة الإعدام قد دنت، وأن حبل المشنقة الأحمر تدلّى ليطوق أعناقهم الغضة، لقتل آمالهم وأحلامهم بلقاء الأهل والأحبة، ورفاق المظاهرة والاحتجاج، ورفاق الهتاف «حرية.. حرية». فتلاشت البسمات التي لم تكن يوما إلا حزينة وذرفت دموع الوداع الأخير وعناق اللحظة الأخيرة، لكن ثمة شيئا آخر حدث، وكان النداء من خارج الأبواب «اخرجوا.. اخرجوا إلى بيوتكم، سقط النظام.. ما في حكومة»، «ليساعدني أحدكم في فتح الباب». ذُهل المساكين وصُدموا لهذا النداء، ولم يصدقوا أن يبرحوا المكان، فانطلقوا هائمين على وجوههم، لم يدركوا حينها ما الذي يحدث ، إلى أن جاء صوتٌ آخر: «سقط النظام.. سقط الأسد.. نحن الثوار» جاء الصوت من قامة طويلة تحمل فأس الخلاص ليضرب به قفل باب السجن اللعين ليحطمه.
تبقى الرواية الأطول هي حكايا المفقودين، الذين تنتظرهم عوائلهم وعملية البحث عنهم في أقبية السجون والزنازين والمعتقلات السرية، التي تعمد النظام إخفاءها
يا لهول ما كان؛ طفلٌ صغير لا يتعدى الأربع سنوات سجيناً. حافي القدمين تائهاً على وجهه، لا يعرف مَن هو والده بسبب اغتصاب أمه المتتالي من قبل السجانين الأوغاد. وهناك فتاة لم تبلغ الثلاثة عشر ربيعاً تحتضن أمها وهي تخرج من باب مهجع السجن مذعورة مصدومة. وتلك المرأة التي تسأل حامل الفأس، «أريد ابنتي.. أين ابنتي؟». وفي مشهد آخر، تدافعت تلك الجموع لتخرج من باب القمع المظلم، والمعاناة المديدة إلى باب الحرية ونافذة الخلاص. وهناك معتقلٌ آخر يخرج من باب السجن حاملاً على ظهره معتقلاً مسناً. وتحت السرير الحديدي كان يقبع شاب نحيل الوجه منفصل عما يحدث، سئل عن اسمه فلم يجب من أين هو، لقد فقد ذاكرته. وفي مشهد لا يصدق يسجد ثلة من المفرج عنهم شاكرين الخالق على نعمة خروجهم، وأحدهم بصوته المرتجف العالي يقول «كنّا سنُعدم قبل نصف ساعة مع أربعة وخمسين معتقلاً»؛ لأن هؤلاء – كسائر كل المعتقلين- كانوا يؤمنون بأن من يدخل هذا «المسلخ البشري» – كما يطلق عليه السوريون- مفقودا، ومن يخرج منه مولود. وفي مشهد لا يُنسى، يتجمع الناس خارج الباستيل الساقط يسألون عن أحبتهم، ذاك شاب يسأل: «أين أبي.. هذه صورته؟»، طبعا إنها صورته قبل اثني عشر عاما، وآخر يسأل عن والده ذي الثمانين عاما، وقد اعتقل منذ عشرة أعوام مع أبنائه الثلاثة، وتلك المرأة المكلومة تسأل عن زوجها الذي غادر المنزل إلى عمله ولم يعد منذ اثني عشر عاما، ولا تغيب عني صورة الأبناء الستة الذين يجلسون على رصيف في شارع أحد العواصم الأوروبية ينتظرون عودة أبيهم منذ أحد عشر عاما، وتلك الأم المريضة التي تنتظر أبناءها الثلاثة بعدما استشهد رابعهم، تنتظر يوم الفرج بعد أن سمعت أن السجون في حلب وحماة وحمص قد فُتحت أمام المعتقلين من قبل الثوار، فكان الانتظار بالنسبة لها عمراً مديداً. ويا لفظاعة الكارثة! ما زالت أبواب القسم الأبيض من الباستيل الأسدي في طوابقه الثلاث السفلى تحت الأرض موصودة.ً وتحجز وراءها حياة المئات، بل ربما الآلاف ممن ينتظرون رشفة ماء أو كسرة خبز وفسحة الضوء، لقد باتت حياتهم بيد السجان الهارب وبيده «شيفرة» الأبواب الجدارية التي يتحكم بها إلكترونيا والتي لم يُعرف لها منفذاً أو قفلاً ، إنه الموت البطيء الذي يتمناه هذا السجان وأسياده، موتٌ بطيء إما جوعاً أو عطشاً أو خنقاً قد أعده السجانون بعناية فائقة قبل فرارهم، ولربما كانوا يريدون نسخةً جديدة من مجزرة الباستيل الأولى «مجزرة قيصر»، لكن بإخراج جديد وسيناريو أكثر ترويعاً، لقد تتلمذ هؤلاء السجانون جيداً على أداء فنون التعذيب من غرف الملح، وغرف الأسيد والمحرقة وغرف فقء العيون وكبس الرأس بالقناع الفولاذي، والدولاب والجلد والفسخ والشبح بالجنازير، وغرف الصعق بالكهرباء، وغرف التجميد إلى غرف الشنق والإعدام، أمام المعتقلين الآخرين وترك جثثهم لعدة أيام بجوارهم.
إن الباستيل الذي أسقطته الثورة الفرنسية في الرابع عشر من يوليو عام 1789 اشتهرت فيه المقصلة، ولكن في باستيل الأسد كانت هناك مقاصل عديدة. كان الفرنسي يموت ميتة واحدة، أما المعتقل عندنا فيموت مرات ومرات، ويشتهي الموت من شدة التعذيب، ولكن لا يموت إلا بمشيئة السجان وقرار المجرم الأكبر.
وسقط الباستيل، ولا تزال حكاياته تروى ممن كتبت لهم الحياة من جديد، ولن تنتهي لا بمقابر جماعية ولا بأجساد مشوهة ملقاة على قارعة الطريق، أو بأرض مشفى تنتظر حفار القبور بعيدا عن الأهل والدفن الكريم، ليروي هذا الأخير رحلة الموت ويعطي الأجساد أرقاماً ورموزاً لا يفكها إلا القاتل الهارب، الذي تنتظره العدالة يوماً ليروي من جديد رحلة بدايتها التعذيب ونهايتها الإعدام.
السؤال هنا، من يعيد لهم الحياة التي فقدوها في هذا الباستيل؟ من سينصفهم من كل العذابات والقهر والمعاناة والقمع، الذي تعرضوا له؟ من سيثأر لاغتصاب الحرائر، ومن يعيد الكرامة والشرف لهن؟ من يعيد الشباب لمن فقدوه صغاراً وقد أمضى بعضهم أربعين عاماً؟ ومن يعوضهم عن فقدان ذاكرتهم؟ ومن يكفكف دموعهم، ويشفي غليلهم، ويجبر كسرهم؟ ولن تنتهي المشاهد هنا، وتبقى الرواية الأطول هي حكايا المفقودين، الذين تنتظرهم عوائلهم وعملية البحث عنهم في أقبية السجون والزنازين والمعتقلات السرية، التي تعمد النظام إخفاءها وإتلاف أية دلائل أو مستندات تتعلق بأماكنها أو بنزلائها. سقط الباستيل ولم تسقط سوريا، وللرواية بقية.
كاتب فلسطيني