مات رون بونداك الذي كان من مهندسي اتفاق اوسلو والذي يعتبر آخِر المؤمنين بالسلام في اسرائيل. كان ‘مجرم اوسلو’ وربما كان ‘المجرم في اوسلو’. وفي دولة، مجرمو الحرب فيها أبطال ـ وأبطال السلام مجرمون، كان رون بونداك بطلا مختلفا. وباستثناء أوري أفنيري الذي صدر في هذه الايام الجزء الاول من سيرته الذاتية الآسرة التي سماها ‘متفائل’، كان بونداك الشخص الأكثر تفاؤلا فيمن التقيت في حياتي. فقد كان متفائلا خالصا بالسلام، ولم يكن أقل تفاؤلا في مواجهة مرضه الطويل اللعين. فقد كان شخصا مشحونا بالأمل ولم يعد موجودا. كان بونداك الأصغر سنا بين المؤمنين بالسلام وكان آخرهم تقريبا، فلا يوجد بعده سوى الهاوية. لم يعد يوجد مؤمنون بالسلام في اسرائيل. وقد أراد السلام من اجل السلام دون انفعال ودون شعور بالذنب، السلام. وهو ليس كارها لاسرائيل بل هو صهيوني ومُحب لاسرائيل؛ وليس مُحبا للعرب ـ فهو شخص واعٍ، ومن آخِر من التقوا العرب وكان يراهم بشرا مساوين، وليس هو رومانسيا ايضا وكانت أحلامه واقعية بيد أنها لاءمت واقعا مختلفا فقط أسلم عقلا بكثير من الواقع المجنون الذي انشأناه هنا. ولم يُضع بونداك أية مبادرة. وقد جاء الى السلام من موقع وطني جدا، وليس ظلم الفلسطينيين هو الذي حث هذا الشخص بل مستقبل الدولة التي أحبها ولم تكافئه قط على عمله كما يستحق. أنار؟ كان بونداك شخصا باردا نشأ في بيت هادئ، وهو اسرائيلي اسكندنافي ربما كان والده هربرت (نحوم) الصحافي الوحيد في التاريخ الذي حرر صحيفتين في دولتين في الوقت نفسه: صحيفة ‘بوليتيكان’ الدانماركية و’دافار هشوفع’ الاسرائيلية. وقد فقد مع سوزي زوجته الآن ابنهما الثاني؛ أما بكرهما أوري الذي كان فتى موهوبا فقُتل في حرب يوم الغفران. أتذكر الآن رون في شاطىء ‘أكفا سان’ الاسطوري في سيناء، وهو مكان أحلامه الذي لم يعد موجودا: وقد انضم مرة واحدة فقط الى أخته ميخال ومجموعة المستجمين الدائمة المميزة هناك، ولم يخلع مدة ايام بقائه كلها ولو لحظة واحدة درعه السفاري الخالد. فلم يكن رون يحب الشمس والرمل. وربما لا يكون أمرا عارضا أن اثنين من منشئي اوسلو وهما الدكتور بونداك إبن الدانماركيين والدكتور يئير هيرشفيلد ـ النمساوي السابق ـ لم يكونا ودودين اسرائيليين. وقد شُوش على اوسلوهما. وكان بونداك حتى آخر ايامه على يقين من أن التشويش كان في التطبيق لا في الخطة ولا في الرؤيا. وفي كتابه ‘قناة سرية’، الذي أهداه الى زوجته تولا، ونشر في 2013، بسط طريق الصعاب التي لا تُصدق التي سار فيها مع هيرشفيلد ويوسي بيلين وأوري سبير وقلة آخرين في طريقهم الى اوسلو ومن هناك الى اعشاب البيت الابيض في واشنطن، والى مراسم التوقيع التي لم يُدع اليها. ولم يحاسب بونداك الرجل الأصيل في كتابه المذنبين الذين يتحملون تبعة الفشل، حسابا عسيرا. فهو لم يكن رجل كراهية أو حساب أو شعور بالمرارة، ولم يفعل ذلك حينما اضطر ايضا الى ترك ‘مركز بيرس للسلام’ لأنه شغل نفسه بالسلام أكثر مما شغلها ببيرس. ذات مرة في احتفال يوم ميلاد متواضع قام به بيلين بمشاركة شمعون بيرس واهود باراك في غرفة درج بيته جلس رون على البلاط شاحبا أصلع ضعيفا مُعذبا بمرضه ولم يشكو آنذاك ايضا. ولن أنسى هذا المشهد. وفي 11 نيسان 2013 قبل يوم موته بسنة، وبدقة تثير القشعريرة، أرسل إلي رون رسالة نصية قال فيها: ‘كان يجب أن تكون مقالتك هي العنوان الرئيس’. وكان عنوان المقالة: ‘رسالة من شبح’. الآن مات رون الشبح في وقت توشك أن تموت فيه محاولة يائسة لنفخ روح الحياة في التفاوض العقيم، بالضبط. والذي كتب في كتابه يقول ‘بقي في الأساس احتمال تسوية سلام’ دون شيء قليل من الهزل أو اليأس، لو عاش لوجد بيقين شظايا أمل في ايام الظلام هذه ايضا حينما لم يعد أحد يتحدث عن السلام. إن رون لن يتحدث الآن ايضا ولن يتحدث أحد بعد الآن عن السلام في اسرائيل.