نعم، لا أحد بوسعه انكار ما حققته الدبلوماسية الأمريكية بقيادة وزير خارجيتها جون كيري من اختراق على صعيد استئناف مفاوضات التسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين المتعثرة منذ ثلاث سنوات، بعد نعي اتفاقات أوسلو ووأد أي بارقة أمل في أن ترى الدولة الفلسطينية العتيدة النور، بفعل سياسة الأمر الواقع التي تنتهجها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، بما عنته وتعنيه من تلفظ بعبارات السلام من جهة، والعمل ميدانيا على كل ما من شأنه أن ينسف أي امكانية حقيقية لتحقيق ذلك السلام، الذي أفرغ من أي محتوى له عمليا، كما تشير معطيات الميدان المعروفة، لكن من يصدق أو يؤمن بأن جون كيري نفسه لا يدرك أن اتفاق من الشارع أو عند الزاوية المجاورة، في أطول صراع في القرنين العشرين والواحد والعشرين. وبالتالي، فإن السؤال المطروح هو، لماذا تجهد الولايات المتحدة نفسها في سبيل استئناف مفاوضات تبدو نتائحها محسومة حتى قبل أن يشرع طرفاها في الجلوس الى طاولتها، وفتح ملفاتها الشائكة الواحد تلو الآخر؟ لا بل لماذا تحث الخطى في هذا الملف العصي على الحل، وسط كومة من الملفات الفلسطينية والعربية المحيطة التي تزيد من رجحان كفة ميزان القوى لصالح الدولة العبرية، وعلى رأسها حالة الانقسام الأفقية والعامودية التي تعاني منها الساحة الفلسطينية، وانتشار الفوضى في بلدان الربيع العربي بعد موجة الثورات والثورات المضادة فيها؟ أما الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها الكثير، فإنها بكل بساطة، لا تخرج عن محاولات قطع الطريق على استحقاقين فلسطينيين، اولهما داخلي يتعلق باقتراب موعد الشروع في تنفيذ أول استحقاقات المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، وتشكيل حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية في منتصف شهر اب/أغسطس الجاري، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن كل خطوة تقترب فيها القيادة المتنفذة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية من بسط سيطرتها ونفوذها على أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية المحتلة، تبعدها بالضرورة مسافات أطول عن الالتفات إلى الملفات الفلسطينية الفلسطينية الداخلية أولا، ومحيطها العربي ثانيا، أما الاستحقاق الثاني فيتعلق بامكانية نيل الدولة الفلسطينية مزيدا من الاعتراف في المنظمات والهيئات الدولية.. خطوة ان حدثت تدرك الدولة العبرية قبل غيرها أن من شأنها أن تخطف ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من حضن الثنائية أو الثلاثية، في أحسن الأحوال، وتعيده إلى كنف الشرعية الدولية، حيث تنتظرها قرارات دولية تعترف للشعب الفلسطيني بالحد الأدنى من حقوقه التاريخية، وتجبرها على توسيع قطر دائرة المفاوضات لتشمل دولا وقوى تمكنت في غفلة من الزمن من ابقائها، طوال الثلاثين سنة الماضية، خارج دائرة الفعل والتاثير في هذا الصراع الطويل. ليس من باب المبالغة أو المغالاة القول إن الدوائر الاسرائيلية، الغارقة في مستنقع اليمين، واليمين المتطرف بعد سيطرة أحزابها اليمينية والدينية على مفاصل الحياة في تل أبيب، بدءا من حقيبة رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية والتجارة والصناعة والاسكان، والمنادية بيهودية الدولة العبرية، تتطلع من وراء الايحاء بأنها جنحت للسلم، إلى توجيه الضربة القاضية للقضية الفلسطينية ونسفها من جذورها، من خلال فرض أولوياتها في عملية سياسية وضعت لها عنوانا إجرائيا منذ أن جلست أول مرة سرا مع وفد سري من منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، بينما كان هناك وفد فلسلطيني ووفود عربية علنية أخرى تفاوضها علنا في مدريد. إذا، فإن كلمتي السر اللتين تحركان تلك الدوائر المتشحة بالسواد، هما السرية والثنائية، أو الغموض والاستفراد، فمن ينسى الشعار الاسرائيلي الشهير المنادي بفصل مسارات التفاوض العربية الاسرائيلية وجعلها مسارات ثنائية صرفة، الذي طالما ألحت عليه تل أبيب قبل أن تتمكن من فرضه واقعا ملموسا، جرت على أساسه كافة التسويات التي أقدمت عليها مع أطراف الصراع من الجانب العربي، في خديعة تاريخية كبرى، باتت الحاجة ملحة، من وجهة نظرها طبعا، في هذه الآونة إلى حقنها بجرعة إضافية لابقاء الملف برمته حبيس القبضة الأمريكية بعيدا عن المحافل العربية والدولية، من خلال تعزيز مواطن الضعف في الساحتين الفلسطينية والعربية، انطلاقا من ترسيخ الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني، وضمان استمرار عملية سلخ القضية الفلسطينية برمتها عن محيطها العربي والدولي أطول فترة ممكنة. تدرك الدوائر الاسرائيلية أن فصل المسارات والاستفراد في كل ملف على حدة يرقيان إلى مستوى المنجز التاريخي بالنسبة لها، أقله لأنهما يسمحان لها ولحلفائها بالاستمرار في التلاعب بمصائر شعوب المنطقة، من خلال تحويل قضاياها الساخنة إلى قضايا إجرائية شديدة البرودة يمكن إدارتها بسهولة، كما تدار أي شركة في العالم، حيث تنبذ كل الملفات ذات الطابع السياسي العميق، مثل ملف وقف الاستيطان أو ملف مرجعية المفاوضات المتمثلة في العودة إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران/يونيو 1967، بينما يرحب بالملفات ذات الطابع الترقيعي على غرار ضخ مزيد من الأموال إلى خزينة السلطة الفلسطينية لدفع رواتب موظفيها الذين تغلب عليهم القوى الأمنية لضمان استمرارها في قمع القوى الفلسطينية المناهضة لمشروع التفريط بالقضية الفلسطينية، ولا بأس أيضا في استحداث بعض المشاريع الفلسطينية الاقتصادية، بغية تحسين بالغ الهشاشة لمستوى معيشة فئة من الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ذلك على حساب بقية فئات هذا الشعب، وكذلك الافراج عن مجموعة الأسرى الفسطينيين الـ104، على الرغم من أنهم لا يشكلون، ربما، سوى واحد أو اثنين بالمئة من مجموع الحركة الفلسطينية الأسيرة القابعة في سجون الاحتلال، وعلى الرغم من أن عملية الافراج عنهم تشكل استحقاقا مضى عليه حتى الآن نحو ثلاثة عقود من الزمن. باختصار، أي من طرفي المعادلة هو الأجدر بالتصديق، الطرف الفلسطيني الواهن، الذي يعتمد بشكل بائس على وعود واهية ثبت زيفها بالفعل لا بالقول، أم الطرف الاسرائيلي، الذي يزهو بنفسه كالطاووس عقب مجموعة لا يستهان بها من الاختراقات، التي استطاع أن يحققها طوال العقود الماضية على كافة المستويات الفلسطينية والعربية والدولية على حد سواء، مكنته إلى حد كبير من اعتماد خطاب كهنوتي حالك السواد قلب كافة الحقائق وجيرها لصالح المشروع الصهيوني، فأصبحت الضفة الغربية بمدنها وقراها وأريافها الفلسطينية بقدرة قادر ‘يهودا والسامرة’ المقدستين في المفهوم اللاهوتي اليهودي، مثلما أصبحت القدس ‘أورشاليم’ المقدسة أيضا في الاطار المفاهيمي التلمودي عاصمة أبدية للدولة العبرية المارقة، هذا بغض النظر عن المعطيات التي تمخضت عنها سياسة الأمر الواقع الاسرائيلية، وما أحدثته على الأرض من اختراقات جغرافية وديموغرافية، وحتى نفسية لم يعد بالإمكان القفز عنها في أي مفاوضات حالية أو مستقبلية. لكن السؤال الآخر الذي يطرح نفسه بقوة ايضا على الجانب الفلسطيني والعربي هذه المرة: هل هو هذا المآل الأخير لقضية العرب المركزية؟ أم أنها مجرد جولة من جولات صراع مديد ومرير ستتبعها صولات وجولات ربما تقلب السحر على الساحر، إذا ما أحسن بناء استراتيجية مفرداتها المقاومة بكل اشكالها المشروعة والعمل الجاد المخلص والالتصاق بالقضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، جنبا إلى جنب مع إعادة خلق بيئة حاضنة لهذه المفردات فلسيطينا وعربيا وأمميا على أساس الانطلاق نحو آفاق عمل وطني ببعد انساني ضمن معطيات الواقع، وبعيدا عن أوهام التسوية التي من المؤكد أنها حاضرة في اذهان صناع القرار في هذه المرحلة أكثر من غيرهم. *العنوان مستوحى من رواية’ الفردوس على الناصية الأخرى’ للبيروفي ماريو بارغاس يوسا