يبدو ان امثولة القرد الذي لا يرى، ولا يسمع، ولا يتكلم، تنطبق جزئيا على الادارات العربية، فهي لا ترى ولا تسمع ولكن تتكلم، وتكثر الكلام الى درجة الثرثرة. في مؤتمر مدريد 1991 قامت الادارات العربية بخدعة مثلثة لشعوبها، فقد غسلت الادارة الامريكية، وحولتها من عدو مستعمر الى وسيط بينها وبين اسرائيل، واوهمت انها تفاوض من اجل ‘الارض مقابل السلام’، بينما طرح اسحق شامير، رئيس وزراء اسرائيل حينذاك، مبدأ ”، وكان هذا شعار الليكود الاسرائيلي في المؤتمر، وفي الولايات المتحدة وفي اسرائيل. وانتهى المؤتمر بوهم ‘الارض مقابل السلام’، بينما هو في الحقيقة ‘سلام مقابل السلام’، فالتفاهمات الضمنية وغير المعلنة كانت ‘سلاما مقابل السلام’، واتفاقات اوسلو بوجه خاص هي ‘سلام مقابل السلام’، فليس للفلسطينيين ارض. ومن منطلق ‘ايريتس لاند’ (اي الارض لنا) استمرت اسرائيل منذ 1967 بتوسيع الاستيطان، واستمرت اكثر من ذلك، بهدم بيوت الفلسطينيين واقامة الاحياء اليهودية على انقاضها، واستمر في الجانب العربي الكلام عن ‘وقف الاستيطان’، وعن ضرورة ‘وقف الاستيطان’ شرطا للسلام ولمفاوضات السلام، وكأن الادارة الاسرائيلية متهافتة على السلام، وتبكي على الابواب العربية من اجل المفاوضات. الادارات العربية، ومن الجملة القيادة الفلسطينية، لا ترى ان الادارة الاسرائيلية، ليس فقط لا تريد السلام، وانما هي مصرة على الحرب من اجل التوسع، ولم تسمع (اي الادارات العربية) بالشرق الاوسط الجديد، الذي يتألف من مشيخات لا حول لها ولا قوة ولا هدف، سوى ان تعيش في كنف استعماري مريح، يعاملها، كما تعامل اسرائيل بدو النقب. وتتكلم الادارات العربية عن الديمقراطية وحقوق الانسان، والديمقراطية لديها هي حرية الالتحاق بالادارة الامريكية، اما حقوق الانسان فتلخصت في الحق بنهب بلدانها، وتتكلم عن العروبة والوحدة العربية، وهذه تعني لدى كل ادارة طموحا ضمنيا في الحاق كل العرب بها، ويدرج اليوم الكلام عن الاسلام والدفاع عنه، بينما لا تستطيع الادارة ان تدافع عن اموالها في البنوك الاوروبية والامريكية، فهي تذوب بالتضخم النقدي، وتتعرض في اي لحظة لخطر التجميد، اذا ارتكب اصحابها ولو مخالفة بسيطة للسيد الامريكي. اما اعادة مجد الاسلام، وبناء ‘خلافة’ بمساعدة الامريكيين، فقد سبقها فشل ‘خلافة’ حسين بن علي، شريف مكة السابق بمساعدة الانكليزي سير هنري ماكماهون، الذي كان مفوضا ساميا في مصر. الكلام كله مسموح به، اذا ما بقي المرء في حضن الادارة الامريكية، او اذا ما طرحه المرء لصالح الادارة الامريكية. الان ‘محاربة الكفر’ الدموية مطروحة لعدة اهداف، اولها تمزيق المجتمعات العربية، والدول العربية، ثم تجنيد فقراء المسلمين في خدمة الادارة الامريكية، ثم ضرب هؤلاء، الذين تنعتهم الادارة الامريكية بالارهابيين بيد مواطنيهم المسلمين، او بيد الغرب، وتشريدهم وعائلاتهم، وهذا ما يحصل حاليا، ثم اضعاف الشعوب العربية وقتل طموحاتهم، ثم تفتيت المنطقة العربية والوصول الى ‘الشرق الاوسط الجديد’. السيناريو الامريكي يمشي بخطوات ثابتة، ويسيل الدم العربي والفلسطيني، والادارات العربية لا ترى ولا تسمع، وتتكلم.. في 1936 اخمدت الثورة الفلسطينية، لان الدفاع عن البلد بقي في حضن الادارة البريطانية، وفي 1948 احتلت فلسطين، لان الدفاع عنها بقي في حضن الادارة الامريكية، وفي حرب 1967 والحروب الاسرائيلية ـ العربية التالية هزمت الادارات العربية، لانها بقيت في الحضن الامريكي. ترى، هل ينجح مشروع الشرق الاوسط الجديد، ما دامت المنطقة العربية ما تزال في الحضن الامريكي؟ والى متى سوف تبقى المنطقة في ذلك الحضن المريح’. الادارات العربية تمثل بشكل او بآخر القوى السياسية القائمة في المنطقة: بشكل او بآخر، لان التمثيل ليس ديمقراطيا، وانما هو في اغلبه قبلي وطائفي. ومعنى ذلك ان قيادات تلك القوى هي ايضا في الحضن الامريكي. وهذا معناه، ان الدفاع عن المنطقة، ايا يكن شكله ومضمونه، الذي تدفع الشعوب ثمنه غاليا من دمائها ومن حرياتها ومن مستوياتها المعاشية ومن مصائرها، يتلخص على مستوى الادارات في عتاب للادارة الامريكية، لكونها ‘وسيطا غير نزيه’، او ‘تكيل بمكيالين’ او ‘غير صادقة في محاربة الارهاب’ او.. الخ. ترى، هل ينجح مخطط الشرق الاوسط الجديد، وينتهى الحلم النهضوي العربي، الذي هو بالاساس حلم غير مبني على اساس مادي؟ ان بقاءنا في الحضن الامريكي هو عامل موضوعي لنجاح كل المخططات العدوانية، ولن يدفع احد تلك المخططات عنا، اذا كنا لا ندفعها عن انفسنا (طبعا المقصود مستوى الادارات). الجدل الديماغوجي على مستوى الطبقة السياسية العربية يحتاج للخلاص من ديماغوجيته، ان ينتقل تركيزه على لقمة الشعب، لا على لقمة الافراد، التي يمكن ان يحصلوا عليها بالسرقة، او بأي نوع من انواع الفساد، وانما على اللقمة لكل الشعب، الامر الذي يتطلب تطوير الانظمة في سبيل ذلك. وعندما يتم التركيز على اللقمة، اي على حياة الشعب، تنتهي دفعة واحدة المنظورات الغيبية للتوجهات السياسية، وتنتهي الامال في ان تأتي الحلول عن طريق الادارة الامريكية، ويتحرر الانسان نظريا قبل ان يتحرر على ارض الواقع. في المخطط الامريكي، وعلى مستوى المنطقة، وربما على مستوى العالم، السلام هو مقابل السلام، وليس مقابل الارض، ولا مقابل اية حقوق: ذلك هو السلام الامريكي. كاتب فلسطيني