شاء السلطان ناصر الدين أن يذهب بنفسه للتعرّف على أوروبا. لم يرسل موفدا أو موفدِين إليها كما فعل محمد علي حاكم مصر حين أرسل الطهطاوي ومن معه إلى فرنسا، أو مثلما فعل السلطان العثماني حين أعلن موافقته على زيارة وزيره محمد جلبي أفندي لزيارة ذاك البلد. السلطان الإيراني قام بنفسه بتلك الرحلة، لكن مصاحَبا بجمع من أنسبائه الأمراء ومن وزارئه ومستشاريه ومدبّري خدمته، بينهم طبيبه وحلاقه وطهاته وغيرهم. كما حملت السفن والقطارات التي نقّلته بين بلدان أوروبا خمسة أحصنة وأمتعة كثيرة لم تغفل الصحافة الأوروبية عن ذكر أوزانها وأحجامها. دامت الرحلة خمسة أشهر زار الشاه فيها روسيا وبولونيا وبروسيا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا والنمسا. ودوّن يومياتها بنفسه، يوما فيوما، ومن غير انقطاع. وإن مرّ يوم من دون تسجيل وقائعه، وهذا حدث مرة واحدة فقط، نراه يعيّن تاريخه في الأعلى، ويعلق في الأسفل على مجرياته بعبارة: «لا شيء».
وصف ما رآه في حدائق الحيوان التي زارها في معظم تلك البلدان، حيث مثلا «أنواع عجيبة من الوحوش: أسود أفريقية ضخمة بلبدة، لم أشاهدها من قبل إلا في الكتب».
كان الشاه محبّا للأدب، يقرأه ويكتبه، كما تذكر المقدّمة الفرنسية لليوميات، وكان يهوى الرسم أيضا. كما كان مطلّعا من دعاة الإصلاح في بلده إيران على التيارات الثقافية الآتية من أوروبا. وكان يتقن الفرنسية، وإن لم يحل ذلك دون اعتماده على مترجمين. ولأنه زار بلادا ناطقة بلغات مختلفة، كان في حاجة إلى كثير من هؤلاء لم نعثر في الكتاب على ما يدلّ على إن كان اصطحبهم كلهم معه من بلده. لكن كان هناك إيرانيون أو متقنون للغة الفارسية من بين أهل تلك البلدان. لكن على أي حال كان المهم أن يُظهر الشاه معرفة بسلوك الأوروبيين وعاداتهم، وهو بدا ملمّا بذلك وقابلا به. فعلى سبيل المثال ذكر مرّتين في اليوميات أنه، في أثناء الدعوات والاحتفالات، كان يتأبط ذراع زوجة الداعي، بل كان لا يتحرّج من حضور حفلات الرقص. وهـــــو، الذي كان راغـــبا أن يصطحب في رحلته عددا من حريمه، انصاع لنصيحة «مشـــير الــــدولة» بأن ترافقه امرأة واحدة فقط هي زوجته. وقد أرجعهن إلى طهران قبل أن يجتزن معه حدودها، باستثناء واحدة هي «أنيس الدولة» التي وصلت معه إلى روسيا، البلد الأول في رحلته، وهو أرجعها من هناك إلى إيران، تفاديا للمشاكل.
على أيّ حال يصعب، اعتمادا على اليوميات نفسها، أن نعرف «المشاكل» التي حدثت في تلك الرحلة طالما أنها مدوّنة بقلم السلطان نفسه. ثم أنها كُتبت، من بين دوافع أخرى، بقصد أن يقرأها الإيرانيون، وهذا ما جعلها أقرب إلى وصف محايد لكل ما جرى فيها. بدا في اليوميات كما لو أن الشاه كان يعرف مسبقا بما سيرى هناك. لم يندهش من شيء شاهده أو عُرض له. حين ركب القطار لأول مرة لم يعلّق إلا على جمال مقصوراته، لكونه قطارا ملكيا. حين علّق على سرعة قطار آخر ذكر أنه ظلّ على القرب نفسه من طائر مسافر في الهواء. المنطاد أيضا، ذاك الذي لم يصدّق الجبرتي زعم الفرنسيين حين حاولوا رفعه عن الأرض في مصر، وفشلوا في المرتين، المنطاد هذا لم يدهش الشاه حين رآه منفصلا عن الأرض حاملا الرجال الثلاثة الواقفين في سلّته. في ألمانيا مثلا استوقفته لعبة «المانيج» التي تدور بالأولاد الراكبين على أحصنة دمى وعربات صغيرة وهو وصفها بأنها «لعبة غريبة». كما إنه وصف ما رآه في حدائق الحيوان التي زارها في معظم تلك البلدان، حيث مثلا «أنواع عجيبة من الوحوش: أسود أفريقية ضخمة بلبدة، لم أشاهدها من قبل إلا في الكتب».
لم يذكر انطباعاته الخاصة في ما يتعدى ذلك الوصف الخارجي، ولم يُبد رأيا في مسألة سياسية حساسة.
ثم هناك الحفلات الموسيقية التي حضرها في كل بلد زاره، الدائق أيضا، والقصور، والاستقبالات المختلفة، وعروض السيرك وألعاب السحر، وكذلك اللقاءات مع الرؤساء التي اكتفى بوصفها من الخارج، وبأقل الكلمات، غير ذاكر الكلام الذي دار فيها. ولنضف إلى ذلك اهتمامه بأحوال الطقس، سواء وهو على متن باخرة، أو وهو مستقبل النهار في الفنادق والقصور التي أُنزل فيها. حين وصل إلى فرنسا استنتج من فوره، أن أجسام الفرنسيين أنحل وأقصر من أجسام الإنكليز والألمان. كان انتباهه هذا من ضمن اهتمامه بأن يقارن ما رأى هنا بما كان رآه هناك، في البلد، أو في البلدان التي زارها من قبل. الألمان أقوياء، مثلا، ومقبلون بحماسة على العمل. الإنكليز شعب راق وعظيم، وقد أبدى إعجابه بإنكلترا واضعا إياها في مقام أول بين دول أوروبا الأخرى.
هو وصف سياحي ملكي، أو رئاسي بما خصّ فرنسا التي يقول إنها الجمهورية الوحيدة هناك. وهو أبقى شعوب البلدان، أو بشرها، على هامش اهتمامه. إن تناولهم بالكلام فبالجملة، كمثل وصفه للفرنسيين الذين رآهم كما لو أنهم يبدون جميعا في حالة حداد، متأثرين بالحرب التي جرت بينهم وبين ألمانيا. وفي مكان آخر لفته أن المتسولين في أوروبا، عوض أن يطلبوا الصدقة، يعزفون على الكمان.
ولم يذكر انطباعاته الخاصة في ما يتعدى ذلك الوصف الخارجي، ولم يُبد رأيا في مسألة سياسية حساسة. مرة واحدة أبدى انتقادا لهم، وذلك حين دعوه لزيارة مصانع السلاح والمدفعية التي أُعجب بجدتها وقوتها، لكنه علّق بأنها تُصنع من أجل إزهاق أرواح البشر بطريقة أسرع وبأعداد أكبر. ذلك «الاستغراب» (مقابل الاستشراق) لم يحمل مفارقات على النحو الذي كان ينتظره قرّاء الشاه الإيرانيون. لم يشر ذلك اللقاء إلى أن المقابلة ما بين الحضارتين سيُظهر عن اصطدام.
لكننا سنجد صدى لذلك في الصحافة هناك، تلك التي دعت، في فرنسا، وفي بلجيكا التي أشاد الشاه بحريتها، إلى عدم استقبال الشاه. كتبت إحدى الصحف عن كثرة حريمه وعن قمعه لأبناء شعبه، في أحد رسوم الكاريكاتير ظهر وهو يتسلّم عيون معارضيه المقتلعة من محاجرها مالئة طبقين ذهبيين…
*»يوميات رحلة إلى أوروبا- 1873» لناصر الدين شاه القاجاري صدر عن دار المتوسط بترجمة رشيد أركيلة. راجعت الترجمة عن الأصل الفارسي مريم حيدري. حاز الكتاب جائزة إبن بطوطة للترجمة 2017-2018. تقع اليوميات في 350 صفحة.
٭ روائي لبناني
شكراً للكاتب على هذه المعلومات, لا حول ولا قوة الا بالله