السلطة الوطنية بين الرهانات الإسرائيلية والحسابات العربية

بعد سنوات قليلة من محاولة طرح نفسه شخصية عالمية تحمل تأثيراً واسعاً، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه عالقاً في مشكلاته المحلية المتواصلة، ويستسلم لوضعه في غرفة الإنعاش التي توفرها أصوات اليمين الإسرائيلي المتطرف، وعليه، في كل مرة، أن يقدم الرشوة بعد الأخرى من أجل استرضاء الشركاء الذين وجدوا في أزمته منفذاً من أجل السيطرة على المشهد السياسي في إسرائيل.
التصريحات الأخيرة أتت بعد شيوع الأخبار والتكهنات المرتبطة بمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، وتحدث فيها نتنياهو عن رغبته في إدامة السلطة الفلسطينية والاستعداد لدعمها مالياً، مع استبعاد فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة بالكامل، أو اجتثاث هذه الفكرة، على حد تعبيره، ومع أن الصراع على خلافة عباس قائم، ولا يمكن إنكاره، إلا أن تغيب الرئيس الفلسطيني يعني وضع مشروعية السلطة الوطنية محلاً للتساؤل، خاصة أن استغلاق المصالحة الفلسطينية لسنوات أدى إلى البقاء في الخانات نفسها التي كان يفترض تفكيكها منذ سنوات من أجل الدفع إلى حلول جذرية بالنسبة للقضايا العالقة.

نتنياهو يعيش مأزقاً مزدوجاً لأن استراتيجيته أصبحت مرتكزة على شراء الوقت، ولكن طبيعته الشخصية لا تدفعه لأن يفعل ذلك صامتاً

من المؤسف، أن يتم الحديث عن القضية الفلسطينية من وجهة نظر بيولوجية تتعلق بقدرة الرئيس عباس على مواصلة مهامه، وتمثيل بصيص الشرعية في الأراضي الفلسطينية، ولكن التساؤل عما هو أخلاقي أمر لا يمكن طرحه، أو وضعه في الاعتبار، بالنسبة للجانب الإسرائيلي ونسخته اليمينية المتطرفة. يفترض نتنياهو أن المسألة تقتصر على السلطة الفلسطينية عند الحديث عن حل الدولتين، متجاهلاً البعد القانوني الذي أدت ترتيبات اتفاق أوسلو إلى إرباكه، ووضعه محلاً للتساؤل، نتيجة للانفراد باتفاق بعيد عن المجموعة العربية، وخارج التصورات التي أرساها مؤتمر مدريد 1991، ولكن التحايل على القرار 242 في تفاصيل أوسلو لا يسقط الحق الفلسطيني في قيام دولة مستقلة على كامل الأرض المحتلة 1967، ومن هذه النقطة يجب الانتقال إلى الافتراض الآخر الذي تقوم عليه تصريحات نتنياهو، وهو الذي يحصر الصراع في العلاقة القائمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بمعنى قناعته الكاملة بأنه تمكن من تحييد الدور العربي بالكامل. من الناحية القانونية الأمر غير ممكن، لأنه يتطلب تحييد الأردن، الذي يؤكد في جميع المناسبات على الدولة الفلسطينية المستقلة، ويمتلك أيضاً القدرة على التداخل قانونياً ودبلوماسياً في حالة الوصول إلى طريق مسدود مع الجانب الفلسطيني، أو الخيار شمشون الذي يعني حرباً شاملة بين المستوطنين وأهل الضفة الغربية، تسعى إلى إحداث حالة من عدم الاستقرار الطاردة سكانياً، أو إعادة الاحتلال بالمعنى الأمني والعسكري من غير التكلفة السياسية، بمبرر حماية المستوطنين، فالتفاهمات العربية في سنة 1974 أتت من أجل تمكين الفلسطينيين من الدخول في معترك عملية سياسية من أجل استعادة حقوقهم وفقاً للآليات التي يرونها مناسبة، ولوجود قضية ممتدة تعتبر الأراضي المحتلة 1967 جزءاً منها، والواقع أن القضية وقعت بصورة منتظمة تحت وطأة عمليات التجزئة والتقسيط والتقسيم، بالصورة التي جعلت الأردن في المقابل، يختص بالأوضاع في الضفة الغربية والقدس كأولوية وطنية أكثر منها التزاماً قومياً، بما يبرر أي عودة مستقبلية للاشتباك على أرضية 242، خاصةً أن اتفاقية وادي عربة 1994 حملت نصاً يشير إلى عدم المساس بوضع أي أراض وقعت تحت سيطرة الحكم العسكري الإسرائيلي عام 1967. على الرغم من الاختراقات التي حدثت في السنوات الأخيرة من خلال الاتفاقيات الإسرائيلية مع أكثر من طرف عربي، فإن فرضية نتنياهو التي تشجعه على إطلاق هذه النوعية من التصريحات، تصطدم بمجموعة من الوقائع الأساسية، ومنها الموقف الأردني الذي يختزل أولوياته في السياسة الخارجية في ثلاثة محاور، وهي القضية الفلسطينية والأوضاع في سوريا والعراق، وهو الموقف الذي تعزز في القمة العربية الأخيرة وبيانها الختامي الذي تبنى وجهة النظر الأردنية.
ربما لم تتمكن المجموعة العربية من تقديم المساندة اللازمة خلال المراحل السابقة، وربما تبقى وقائع الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية عاملاً ضاغطاً على الجانب الفلسطيني تجعله يندفع بظهره إلى الحائط، وطرح حلول مثل تفكيك السلطة نفسها، والقفز بمشكلة سياسية وقانونية وديموغرافية في مواجهة إسرائيل، ولكن ذلك لا يبرر الثقة المفرطة التي يتحدث بها نتنياهو، فالهدف الذي يحدده يعني تفريغ السلطة من أي شرعية وتحويلها إلى مجرد وكيل، وهو الأمر الذي لا يستطيع أي طرف القبول به، أو تطبيقه على أرض الواقع أمام تصاعد المقاومة الشعبية في مختلف مناطق الضفة الغربية.
تعاني إسرائيل من ضغوط متزايدة بخصوص الاستيطان، أتى آخرها مع قرار أمريكي بوقف تمويل المؤسسات التعليمية في المستوطنات، والمستوطنون الذين يستشعرون تراجعاً في الاهتمام بشؤونهم يقوم على الانشغال بالاحتجاجات الأسبوعية في إسرائيل ضد توجهات نتنياهو بخصوص الأجهزة القضائية، والأزمة الاقتصادية التي تتزايد حدتها مع رحيل مجموعة من الشركات العالمية، تبدو بحاجة إلى التأكيد المستمر على مكتسباتهم السياسية، وهو ما يدفع نتنياهو إلى الطمأنة المستمرة والمجانية. نتنياهو يعيش مأزقاً مزدوجاً لأن استراتيجيته أصبحت مرتكزة على شراء الوقت، ولكن طبيعته الشخصية لا تدفعه لأن يفعل ذلك صامتاً لأن ذلك سيعزله عن حلفائه في اليمين الذي يعيشون أزمة ثقة كبيرة تفاقمت بعد الأحداث الميدانية المتتابعة، ومظاهر الفشل الإسرائيلي المتواصلة، وفي المقابل، يتواصل تصدير الأزمة تجاه الطرف الأضعف في المعادلة وهو السلطة الوطنية، الذي يتبدى واضحاً على الرغم من أي حديث حول الخطأ في تأسيسها وملابسات ذلك يجب أن لا يجعل تفكيكها تحت أي طائل أو سبب في هذه المرحلة إلا خطيئة استراتيجية كبيرة، يجب عدم تمريرها من غير إدراك النتائج التي يمكن أن تنتج عنها.
*كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية