إن كان من كلمة واحدة لتصف سينما البريطاني كين لوتش، ستكون «النّبل»، وهذه الصفة تتكرّس مع كل فيلم جديد لأحد أكثر المخرجين الأحياء تكريماً في العالم. يمكن العودة إلى النّبل لدى لوتش في مواقفه السياسية والاجتماعية لقضايا قد تكون أكثرها حضوراً في تصريحاته، القضية الفلسطينية، وهو مساند أساسي لدعوات مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي ثقافياً واقتصادياً.
أمّا النبل في أفلامه فهو اجتماعي ومحلي بالدرجة الأولى، كما هو سياسي تاريخي، أبرزها سياسياً فيلم «الرياح التي هزت الشعير» الذي نال السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي عام 2006. أما الاجتماعي فمثاله فيلم «أنا دانييل بلاك» الذي نال السعفة ذاتها بعد عشر سنوات. بينهما، وقبلهما وبعدهما، تعمّرت سينما كين لوتش، وتأسس النبل فيها، بمواضيع مماثلة آخرها كان دمجاً للاجتماعي بالسياسي، للحدث العالمي بالحالة المحلية، في «السنديانة العتيقة».
الفيلم الواقعي تماماً والمعتمد على شخصيات حقيقية لا ممثلين، تعيش أدوارها إنما أمام الكاميرا، إنساني تماماً بتقديم جميع شخصياته، متعاطف معها من أصغرها إلى أكبرها، مقدماً إياها بأسلوب كلاسيكي أشبه بنسخة مكثفة من روايات واقعية لدوستويفسكي أو هوغو، حيث الخير بيّن وكذلك الشرّ، وبسرد سينمائي كلاسيكي كذلك، وهادئ في تقديم متدرّج للأحداث وتطوراتها، وكل ذلك بسحر كين لوتش الفريد المتجدّد بكل أفلامه، كغيرها من الفنون الواقعية والإنسانية، حيث العدل قيمة عليا متخطية الأزمنة، وحيث الفنون الخالدة تتأسس على حسن إظهارها.
شارك الفيلم في مهرجان كان السينمائي الأخير (The Old Oak)، وعنوانه من اسم حانة في قرية شمالي إنكلترا، تفرغ تدريجياً من مرتاديها بعد إغلاق مناجم الفحم والهجرة من الريف إلى المدن، ليبقى في القرية كبار السن والفقراء من شبابها. يمزج، الفيلم، المسألة السورية من خلال لاجئين جدد إلى القرية، بمسألة محلية يجسّدها فقراء القرية وعمّالها، وكلاهما، اللاجئون والفقراء ضحية نظام واحد في هذا العالم بجانبيه السياسي والاجتماعي.
يبدأ الفيلم بوصول عائلة من أم وأبنائها إلى القرية، بممانعة من أهلها، بعض السكارى فيها وبعض العنصريين. وبترحيب بعض الطيبين من أهلها، تحديداً صاحب الحانة الذي تغيرت حياته بعد موت والده وآخرين من الفقراء عمّال مناجم الفحم هناك. من خلال الابنة، تندمج العائلة أكثر مع مجتمعها المحلي الجديد، ومن منطلق واحد هو التكافل والتضامن، وبعبارة تكررت في الفيلم هي «إن أكلنا معاً، سنبقى معاً». فنسّقت مع صاحب الحانة مناسبات لإطعامٍ مجاني لفقراء القرية، ما قرّب الناس بعضهم إلى بعض، وفتح قلوبهم وتصادقوا، رغم منغّصات لا بد منها من قبل لئيمين وعنصريين مرتادين للحانة.
ينقل الفيلم الالتقاءات الطبيعية والضرورية لحالات الاضطهاد في العالم، سواء كانت بطابع سياسي أجنبي أو اجتماعي محلي. يكون بذلك اللاجئون الوافدون والفقراء المحليون أصحاب قضية واحدة بأكثر من بُعد، متقاطعون في حالاتهم، وفي موقع الضحية الذي يغمرهم ضمن نظام عالمي واحد تسبّب في تهجير هؤلاء وفي إفقار أولئك. يمكن قراءة أبحاث وكتب في ذلك لكنه صُوّر بحميمية ومصداقية في فيلم لوتش موصلاً الفكرة والشعور إلى مشاهدها بنقاء ونبل عُرف بهما لوتش المتعاون مع كاتب السيناريو لمعظم أفلامه وتحديداً الأخيرة، بول لافرتي.
قد يكون المشهد الأخير في الفيلم، حين تعلم العائلة البسيطة والودودة بمقتل الأب في سوريا، وكان سجيناً لدى نظام الأسد بعدما خطفه الشبّيحة، نموذجياً في التضامن الإنساني، في غلبة المشاعر الإنسانية النقية على العنصرية واللؤم والشر، فيحتضن الأهالي، العائلة التي تتكشّف على مجتمع جديد من المتضامنين المتشاركين معها مآسي أخرى لها أسبابها وظروفها وحالاتها، هي كذلك مآسي مستضعَفين في هذا العالم.
يقدم لوتش في فيلمه درساً أخلاقياً (سياسياً واجتماعياً) في معنى أن تكون السينما نبيلة، في مدى إدراك المخرج لالتحام القضايا العادلة التي يودي بعضها إلى بعضها الآخر، وفي صدقية إيصالها وموثوقيتها، من دون الحاجة إلى المبالغة الدرامية أو البصرية. حوارات عادية، مواقف عادية مرّ ويمر بها معظم اللاجئين أينما كانت بلدانهم وأينما أوصلتهم أقدارهم. لا عنف بصري ولا كلامي هنا، فقط مشاعر تتفاعل وتتواجه لتسود أخيراً تلك الخيّرة، الطيبة، الإنسانية بمعناها الأليف من ناحية، والواعي لطبيعة التكافل والتضامن بين الفئة ذاتها، متخطية الألوان والأعراق.
«السنديانة العتيقة» درس في معنى أن تكون السينما قيمةً أخلاقية، في أن تكون هذه القيمة بفيلم هو بحد ذاته، تحفة سينمائية بمعزل عن موضوعه.
كاتب فلسطيني سوري