الخرطوم – «القدس العربي»: كانت حادثة إقالة مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، لقمان أحمد، لتمضي في إطارها السياسي والإعلامي، لولا أن فيديو مصوراً أظهر بعض أعضاء هيئة الدفاع في محكمة مدبري انقلاب 1989، يكيلون العبارات العنصرية ضد لقمان ويسبون عقيدته.
هذه الحادثة أعادت قضايا الاستقطاب العنصري للواجهة، وتسببت في صدمة كبيرة للرأي العام السوداني، كما أنها وجدت استنكاراً واسعاً وسط دعوات للشروع الفوري في التحقيق ومحاسبة المتورطين.
وخلال نقل وكالة الأنباء السودانية لجلسة محاكمة مدبري انقلاب الإنقاذ-النظام السابق، الثلاثاء، برز حديث جانبي بين محامين في هيئة الدفاع، سبوا خلاله مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بعبارات عنصرية ومسيئة للعقيدة، مستنكرين نقله لتظاهرات 6 أبريل/نيسان وتغطيتها عبر مراسلين، فضلاً عن الإساءة للمتظاهرين والثورة السودانية، وإشارتهم لزرع كوادر من النظام السابق في هيئة اتهام مدبري انقلاب الإنقاذ.
وفي وقت توالت بيانات الرفض والإدانة في الأوساط الاجتماعية والسياسية، أنكرت هيئة الدفاع عن مدبري انقلاب 1989، الحادثة، واصفة الفيديو بالكذب والتلفيق، رغم المتابعة الواسعة التي تحظى بها جلسات المحاكمة.
وحسب خبراء قانونيين، تصل عقوبة الجرائم المتعلقة بإثارة الفتنة العرقية والدينية للسجن والغرامة، وقد تصل لسحب رخص المحاماة من المتورطين.
وأكد الخبير القانوني المعز حضرة، لـ”القدس العربي” أن ما قام به المحامون مخالف للقانون الجنائي السوداني ومجرم وفق المواد الخاصة بالسباب وإثارة الفتنة العرقية والدينية، ويعاقب المدانون فيها بالسجن أو الغرامة، فضلاً عن مخالفتهم لقانون المحاماة وميثاق الشرف المهني.
وبين المحامي والناشط الحقوقي عبد الباسط الحاج لـ “القدس العربي” أن قانون المحاماة في السودان يعتبر هذا السلوك مشيناً وغير مقبول مهنياً من شخص منوط به إقامة العدالة وإحقاق الحق، مشيراً إلى المادة 6 من قانون المحاماة التي نصت على شروط الاشتغال بالمحاماة، قيدتها بأن يكون المحامي محمودَ السيرة وحَسُن السمعة.
وأضاف: “تنص المادة 43 من قانون المحاماة على أن تقوم النقابة بتشكيل لجنة محاسبة إذا صدر من أي محام فعل (يحط من كرامة المحاماة وقدرها ويخالف الأحكام القانونية)”، مبيناً أن المحامين وفق مقطع الفيديو، فقدوا شرطاً أساسياً من شروط المهنة يستوجب تشكيل النقابة لجنة تحقيق ومحاسبة للمحامين المشتبه بهم في التسجيل، والذي قد تصل عقوبته إلى سحب رخصة المحاماة، فضلاً عن العقاب الجنائي الذي يجب أن يقع عليهم.
ولفت “الحاج” إلى أن القانون الجنائي السوداني لم يتناول مسألة العنصرية بما يتناسب مع حجمها كأزمة مجتمعية متجذرة تحتاج إلى نصوص قانونية واضحة وعقوبات قاسية تردع الجناة، مشيراً إلى أن القانون الجنائي نص على الجريمة بشكل سطحي في المادة 64 من القانون الجنائي السوداني تحت مسمي (إثارة الكراهية ضد الطوائف) والتي تصل عقوبتها للسجن مدة عامين.
وأكد على ضرورة تشديد العقوبة في حالة الجرائم المتعلقة بالعنصرية، وأن تكون رادعة وقوية لأنها تمس الأمن القومي والمجتمعي وتؤثر على وحدة وسلم البلاد واستقرارها. وأشار إلى تهديد قضايا التمييز العنصري لوحدة النسيج الاجتماعي وتداعياتها الخطيرة، في ظل حالة الهشاشة التي تمر بها البلاد، وتبعات إعادة الاستقطاب العنصري للواجهة في وقت مازالت البلاد تعاني من رواسب ممارسات النظام السابق المسيئة للتعدد العرقي والديني في السودان.
وأضاف: “هذا السلوك غير مستبعد من منسوبي الجبهة الإسلامية الذين مارسوا أسوأ أنواع العنصرية والتمييز العرقي ضد أبناء الشعب السوداني، مرة بممارسة حرب عنصرية ضد الجنوبيين، ومرة ثانية بالحرب العنصرية الموجهة في دارفور والتي تصل إلى جرائم الإبادة الجماعية التي يواجهها الرئيس السابق عمر البشير”.
ودعا الحاج إلى تنظيم حملة كبرى للقضاء على العنصرية وتشريع قوانين داخلية رادعة، بالإضافة إلى الانضمام إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على العنصرية.
إلى ذلك، لفت الصحافي الناشط في حقوق الإنسان، حسين سعد، “القدس العربي” إلى ضرورة تصدي المجتمع للعنصرية المقيتة التي ظهرت في التسجيل المصور لبعض محامي هيئة الدفاع عن مدبري انقلاب الإنقاذ، مشيراً إلى أن نيران العنصرية ظلت تحرق السودان وأدت تداعياتها في وقت سابق إلى انفصال جنوب السودان وتهدد بإشعال أزمات عديدة في مناطق أخرى، محذراً من اقحام الاستقطاب العنصري والقبلي في السياسة وتبعاته الخطيرة على وحدة البلاد والنسيج الاجتماعي.
وأشار إلى الخطوات الواسعة التي مشتها الثورة السودانية في محاربة الخطاب العنصري وخطاب الكراهية، وتذويب النعرات القبلية والتمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين، وشعاراتها في الصدد، مؤكداً على ضرورة الاحتفاء بالتعددية والتنوع في السودان وتعزيز الخطاب الديني والاجتماعي والسياسي الذي يعزز مبادئ المساواة والوحدة واحترام التنوع ونبذ العنصرية.
وبدا تأثير شعارات الثورة وقيمها واضحاً في ردود الفعل الشعبية الواسعة والاستنكار الواسع من الأجسام المطلبية والتنظيمات السياسية، حسب سعد. وأدانت اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين السودانيين وأحزاب ومنظمات، الإساءات الدينية والعنصرية في حق الصحافي لقمان أحمد، مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون المقال، مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الحادثة وتقديمهم لمحاكمة عادلة. وقالت في بيان: “وفقاً لمبادئ مهنة الصحافة الرافضة لخطاب الكراهية والعنصرية، تعلن اللجنة عن إدانتها وبشدة لما ورد من ألفاظ مسيئة من أناس كان أولى بهم تطبيق القانون على سلوكهم وحياتهم”. وأكدت تضامنها مع الصحافي لقمان أحمد، ودعته للجوء إلى المسلك القضائي لما في ذلك من مساهمة لقبر مسلك العهد السابق وإحقاقاً لمبدأ المساواة دون تمييز بين أبناء الوطن الواحد، مبدية استعدادها لتقديم أي مساعدة فيما يسهم بمحو العنصرية.
واستهجنت شبكة الصَّحافيين السُّودانيين تلك التصرُّفات، وضمت صوتها إلى الأصوات المُطالبة بمُحاسبة المتورطين ليكونوا عبرةً لمن لا يُعتبر. وأضافت في بيان، إنّ “العُنصريين في الدرك الأسفل، وما كان لهم أن يصعدوا لولا هذا الانقلاب الذي سمح لهذه العقليات الخَرِبَة بالظهور”.
كما نددت هيئة محامي دارفور بالحديث العنصري واستخدام هيئة الدفاع عن مدبري انقلاب الإنقاذ عبارات مسيئة للكرامة الإنسانية، مؤكدة أنها ستتواصل مع لقمان للتشاور بشأن ما قيل من حديث عنصري يتعداه في شخصه ويمس سلامة المجتمع وتماسكه، والتداول حول ما يجب اتخاذه من إجراء في مواجهة كل من له صلة بهذا الحديث العنصري.
وحذر مركز دارفور للعدالة الانتقالية ودراسات السلم، من تنامي نزعات العنصرية والكراهية. وقال في بيان أمس، إن تعزيز الخطاب العنصري يهدف لحرق المجتمع وتحطيم الدولة وضرب تماسكها الوطني، مطالباً بإجراءات عاجلة تجاه المتورطين وإيقاع أقسى العقوبات عليهم، وسحب رخصة مزاولتهم المحاماة نهائياً وإلزامهم بالاعتذار علناً للقمان والتعهد بعدم تكرار ذلك.
وندد كذلك، حزب الأمة القومي بالحادثة، قائلاً في بيان أمس: “تابع الجميع فيديو عبر بث مباشر لحديث بين اثنين من محامي الانقلابيين تحدثا فيه بصورة عنصرية بغيضة عن مدير التلفزيون السابق، لقمان أحمد، إلى جانب تفوه أحدهم بسب العقيدة في نهار رمضان وتوجيه ألفاظ نابية وإهانات للثوار والثائرات”، مؤكداً إدانته بشدة لهذا الحديث الذي يمس العقيدة ويكرس للعنصرية.
وطالب بالتحقيق في الحادثة واصفاً إياها بغير الأخلاقية من أشخاص يمثلون ركناً من أركان العدالة، ويفترض فيهم القدوة الحسنة والمهنية وتجريم العنصرية لا التفوه بها. وأضاف: “يوماً بعد يوم، يتضح للشعب وبجلاء بُعد هذه المجموعات المتأسلمة عن الشعارات البراقة التي يرفعونها، وهذا يبرر حالة الغضب الشعبي ضدهم، ويؤكد سوء نياتهم تجاه أبناء الشعب السوداني من الثوار والثائرات”، مؤكداً على ضرورة المحاسبة والمساءلة.
ولفت إلى أن التصدي للعنصرية ينبغي أن يتخذ أشكالاً ومسارات قانونية وثقافية وتعليمية وإعلامية تعلي من قيمة المواطنة والسودانية وتعزز كرامة الإنسان وكافة حقوقه، مشدداً على أن الظل لن يستقيم، والعود أعوج.
وقال حزب المؤتمر السوداني إن الحديث الذي نقله الفيديو المصور لعضوين من أعضاء هيئة الدفاع عن منفذي جريمة انقلاب 30 يونيو 1989 خلال جلسة المحاكمة، كشف عن جريمة الإساءة العنصرية وسب العقيدة لمدير هيئة الإذاعة والتلفزيون المقال بأمر قائد الانقلاب، دون أن يدركا أن صوتهما منقول على الهواء مباشرة من خلال البث الحي، لافتاً إلى تطرقهما أيضاً إلى جزئية تتعلق بأداء هيئة الاتهام وزرع عناصر موالية للنظام البائد فيها، ثم وصما الثورة والثوار وحراك جماهير شعبنا الصامد بألفاظ وقحة.
واعتبر ذلك السلوك انعكاساً لأخلاقيات منتسبات ومنتسبي النظام البائد، واصفاً إياها بالمخالفة لتعاليم الأديان السمحة والأعراف والقيم الوطنية والخلق القويم، مشيراً إلى أنه امتداد لإمعانهم في تمزيق النسيج الاجتماعي السوداني بالفتنة العرقية والعنصرية، ويمثل سباحة عكس تيار مبادئ ثورة ديسمبر التي عملت على ترسيخ مفاهيم المساواة في الحقوق والواجبات بين كل السودانيات والسودانيين باختلاف إثنياتهم وأديانهم وثقافاتهم على امتداد البلاد، وعلى احترام جميع الأديان.
ولفت إلى الحديث الخطير عن زرع عناصر من النظام السابق في هيئة الاتهام، مؤكداً أنه يقدح في مهنيتها ويستدعي إجراء التحقيقات اللازمة. وبين أن القطاع القانوني لحزب المؤتمر السوداني شرع في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد هذين المحاميين حتى ينالا أقسى العقوبات وفق نصوص القانون، مؤكداً تصديه بكل صرامة، لأي عبث بوحدة السودانيات والسودانيين، ولمحاولات زرع الفتنة والشقاق بينهم، وأن الثورة بمبادئها النبيلة بعثت في نفوس السودانيين روح المساواة والعدالة والحرية، في ظل السلطة المدنية المنشودة، المقامة على أنقاض السلطة الانقلابية. وقال حزب البعث العربي الاشتراكي، إن الحادثة كشفت حقيقة قوى الردة والانقلاب أمام الشعب وعن نوايا بث خطاب الكراهية وتصنيف الإنسان على أساس اللون والعرق والمظهر الخارجي، وبما يُسقط المواطنة كأساس للمساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز مناطقي، أو عرقي، أو قانوني، مشدداً على فداحة حدوث ذلك في حرم المحكمة.
ولفت في بيان إلى احتواء التسجيل الإساءة للدين والمعتقد، وإظهاره استمرار الاستهزاء بإرادة الشعب ثورته، بالإضافة إلى احتوائه رسالة بليغة، وعلى الهواء، تؤكد أنهم لن يؤمنوا بالمواطنة والتعددية والسلطة المعبرة عن الشعب.
وجدد الدعوة إلى مقاومة وإسقاط قوى الانقلاب ونهجه وممارساته، مؤكداً أن ذلك لن يتم إلا من خلال وحدة قوى الثورة وتصعيد النضال عبر الوسائل السلمية المتنوعة وتوسيع قواعد المشاركة الشعبية في الانتفاضة، وبلورة ذلك من خلال الجبهة الشعبية الواسعة للديمقراطية والتغيير وإسقاط الانقلاب من خلال التحضير للعصيان المدني الشامل والإضراب السياسي العام.
وقالت الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال-مناطق سيطرة الحكومة، في بيان: “ندين بشدة هذا السلوك المتخلف وما تضمنه من انتهاك للمعتقدات الدينية وتجنّ عنصري الطابع على مواطن سوداني”، مؤكدة أنها ستواصل نضالها الحازم لحماية حق بنات وأبناء السودان في التمتع المطلق بحرية الضمير والمعتقد. وأضافت: “ما حدث في محكمة مدبري انقلاب الإنقاذ يؤكد سلامة موقفنا من الدولة الدينية، ويعزز إصرارنا على علمانية الدولة، ويبرر سعينا الجدي لاقتلاع كافة جذور التمييز والاستحقار والتهميش”.
إلى ذلك، أدانت الجبهة الثورية عبارات التنمر والعنصرية الصادرة من أعضاء هيئة الدفاع ضد لقمان، مؤكدة تضامنها معه، داعية كل القوى المدنية والسياسية لإدانة هذا السلوك. وطالبت الجهات العدلية بتكوين لجنة تحقيق وتقديم المتورطين للمحاكمة.