في الثاني من يناير/كانون الثاني الجاري اجتمع وفدان يمثّلان تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية في السودانية «تقدم» برئاسة عبدالله حمدوك رئيس الحكومة السابق، وقوات الدعم السريع برئاسة الفريق أول محمد حمدان دقلو» حميدتي» في أديس أبابا، وأصدرا «إعلان أديس أبابا» لحل الأزمة السودانية. أعطى تحقيق ذلك الاجتماع والاتفاق إحساساً مبهماً بالأمل للسودانيين وكلّ المهتمّين لأمرهم – مثلنا- على الرغم من كلّ ما جرى ويجري، وعلى الرغم من عمق الحفرة التي هوى فيها السودان دولةّ وشعباً. ناقش الاجتماع ﻗﻀﺎﯾﺎ إنهاء حالة الحرب، ووﻗﻒ اﻟﻌﺪاﺋﯿﺎت وإﯾﺼﺎل اﻟﻤﺴﺎﻋﺪات اﻹﻧﺴﺎﻧﯿﺔ وﺣﻤﺎﯾﺔ اﻟﻤﺪﻧﯿﯿﻦ، ومبادئ وإجراءات إعادة ﺗﺄﺳﯿﺲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺴﻮداﻧﯿﺔ، وكذلك نوقشت آليات التنفيذ، وجرى الاتفاق بشأنها كلها، كما ورد وقيل.
وكانت» التنسيقية» قد تأسست قبل عدة أسابيع من عدد من القوى السياسية والمدنية، لم يكن من بينها الحزب الشيوعي وحزب البعث وقسم رئيس من» لجان المقاومة»، وهي قوى بقيت التنسيقية تناشدها الانضمام إليها. وإثر عقد اجتماع أديس أبابا وصدور إعلانه، أكد المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني، أن الإعلان قد خرج عن مهامه التي كانت متوقعة ومطلوبة بشكل عاجل لوقف الحرب وتوصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين، ليستغرق في اتفاق سياسي مع من تورط مع الطرف الآخر في جرائم الحرب والانتهاكات التي أشار إليها الإعلان، ما يكرس وجود الدعم السريع والشراكة معه مرة أخرى، ويقود لتقسيم البلاد وحمل السلاح لفرض أجندة سياسية، ويعيد إنتاج الأزمة والحرب.
ليس هنالك من مخرج للسودان إلّا بتعاظم الضغط على القوات المتصارعة للجنوح إلى السلم ووقف إطلاق النار أولاً، لإفساح الفرصة لمن يريد التراجع
يتجاهل الاتفاق في الواقع حقيقة أن قوات الدعم السريع هي نوع من الميليشيا التي يطلب الكثيرون تفكيكها، أو اندماجها في بنية القوات المسلّحة، وأن تاريخها القديم يعود إلى عهد كان فيه اسمها الشائع هو» الجنجويد» التي تتحمّل مسؤولية مهمة في انتهاك القانون الإنساني وحقوق الإنسان والتصفية العنصرية في دارفور. تلك وجهة نظر قد يكون الزمان قد تجاوزها إلى هذا الحدّ أو ذاك، مع أن ملفّات المسألة ما زالت حيّة في المحاكم الدولية، ولكنها طرف في الحرب الراهنة، والطرف الأضعف مشروعية وسمعةً – تتعلّق بالفساد والذهب والميول اللا دولتية إن صحّ القول- إلى هذا الحدّ أو ذاك. لكنّ الأكثر أهمية رغم ذلك هو ذهاب الطرف «المدني» إلى مشروع مع أحد الطرفين العسكريين المتقاتلين، وفي غمرة القتال والفوضى؛ ولا يبرّر هذا المظهر أيّ قول بأنّ اللقاء قد سبقته دعوات عدّة للطرف الآخر. هو ميل سياسي إلى إحدى الكفّتين، سوف يكون سلبياً لا تعوّضه إلّا تنازلات مقابلة أمام الطرف الآخر، هي أيضاً ليست مرغوبة ولا بنّاءة بدورها.
أظهرت معالم إعلان أديس أبابا الاجتماع الثنائي وكأنّه مؤتمر تأسيسي يقرّر مستقبل الدولة وبنيتها وصفاتها بالتفصيل، وذلك محرج عمليّاً وبالتأكيد. إذا انضمّ هذا الخلل إلى سلوك الطرف الثاني، سوف يبتعد السودان عن وحدته وعن آمال شعبه بالعودة إلى مسار الدولة المدنية وثورة ديسمبر/كانون الأول 1919.
في الواقع، ومن جهة أخرى، تمثّلت قوى رئيسية من «الحرية والتغيير» في لقاء أديس أبابا، الأمر الذي يعزّز مزاعم قوات الدعم السريع بأنها تمثّل خط الثورة، وتقاتل ضدّ الثورة المضادة وفلول نظام البشير والحركة الإسلامية و»كيزانها». في حين لا يترك طرف الجيش وسلطة قائده عبد الفتاح البرهان فرصة كافية لدحض تلك الاتهامات وتفنيدها، إلّا باللغة الإعلامية والدعائية.
ذهبت حرب المتنافسَين على السلطة حتى الآن بآلاف الضحايا من المواطنين، ودفعت سبعة ملايين سوداني إلى النزوح خارج الحدود أو داخلها. اختفى حميدتي عن الأنظار تقريباً في الأشهر الماضية، واستطاع البرهان القيام بجولة خارجية حاول من خلالها – وفي غياب حميدتي – التأكيد على شرعيته وأفضليّته، حتّى جاء الردّ الأخير من جهة الدعم السريع. ظهر حميدتي بلباسه «المدني» وشكله «المتواضع» والمعبّر في جولة خارجية أكثر ضجيجاً، شملت أوغندا وجيبوتي وكينيا وإثيوبيا وجنوب افريقيا، واستقبله فيها مسؤولون من الدرجة الأولى وبمراسم قريبة من استقبالات رؤساء الدول، قبل أن يتوّجها بلقاء أديس أبابا وإعلانه.
عند حدوث انقلاب البرهان وحميدتي على الثورة والقوى المدنية، وفي تظاهرة «ثورية»، أعادت السلطة الرئيس المخلوع البشير وأركان حكمه وبعض قيادات المؤتمر الشعبي من المشافي إلى السجن بعد أكثر من عام من بداية إجازتهم تلك، لكنّها على ما يبدو في صراعها مع الدعم السريع، كانت «مضطرة» إلى الاستعانة بالحركة الإسلامية. ظهرت على الأرض قوات خاصة منظمة، مثل لواء البراء بن مالك – الذي قضى أحد أبرز القياديين الإسلاميين – محمد الفضل- وهو يقاتل في قيادته؛ كان المدافع عن مدينة ود مدني مؤخّراً وعانى من هزيمة كاسحة، ومثل الفصيل الذي يقوده القيادي الإخواني البارز علي الكرتي الذي تقدّم ببيان حربي وبرنامجي عند هروبه من السجن. لقد كسب الجيش السوداني وقائده الكثير من خلال كونه الطرف الأقرب بكثير إلى» الشرعية» في السودان، في حين خسر حميدتي وقواته أيضاً الكثير لخروجه على» قيادته» وعدم انضباطه، ممّا كان تهديداً للدولة، التي تحرص القوى الدولية وكثير من تلك الإقليمية على استمرار مؤسساتها. قابل ذلك كسب من الجهة الأخرى على جبهة «الشرعية الثورية»، ظهر فيها البرهان من جهة حليفاً لنظام البشير، يعمل على تمريره وإن جزئياً في شرايين السودان بعد هزيمته في ثورة ديسمبر، ومن جهة أخرى مستعيناً ومستقوياً بالحركة الإسلامية، التي تتحمّل الكثير من أوزار المراحل السابقة أمام الشعب السوداني؛ وظهر حميدتي والدعم السريع داعماً للثورة والتغيير ولقيام الدولة المدنية: تلك مفارقة تحتاج إلى تدقيق وتعمّق في زحمة الأحداث وتداخلاتها.
ليس هنالك من ثغرة في وقت العالم والمنطقة ينفد منها السودان وشعبه إلى دائرة الضوء مع استهلاك الحرب على غزّة وعلى أوكرانيا لمعظم الطاقات المتوفّرة، ما خلا تلك القوى في الإقليم الذي ينتمي إليه، خصوصاً في دول منظمة الإيغاد، التي كان ظاهراً للمراقبين أنها تكاد تكون راعية لاجتماعات أديس أبابا وجولات قائد الدعم السريع… وذلك – للوهلة الأولى على الأقل- ينذر بكارثة وحيدة الاتّجاه.
كان ردّ البرهان على ما حدث عنيفاً وربّما مرتجلاً، ينسجم عموماً مع ميول قوى النظام السابق والحركة الإسلامية للدفع بالصراع إلى نهاياته، ويعزّز التشاؤم الذي يحسّ به السودانيون ويحاولون إخفاءه. هذا التوجّه قد يؤدّي إلى دعم عوامل الفوضى واستمرار الصراع والمزيد من تمزّق البلاد. انعكس هذا في خطاب البرهان الأخير، الذي أيّد فيه تسليح المدنيين من دون تحفّظ، في إطار ما يُطلق عليه اسم «المقاومة الشعبية».
وليس هنالك من مخرج – ضعيف الاحتمال حتى الآن – إلّا بتعاظم الضغط على القوات المتصارعة للجنوح إلى السلم ووقف إطلاق النار أولاً، لإفساح الفرصة لمن يريد التراجع حتى يتراجع… هنا يبدو ما طرحه حميدتي بلسانه من الحاجة إلى» تدخّل خارجي يفرض وقف القتال على الطرفين» منطقياً وضرورياً لممارسة الضغوط على الطرفين، على الرغم من نفيه الأمر بسرعة وبراءته منه بعد أن طفت على السطح ضغوط «الاستقلال والسيادة الوطنية» وملأت الدنيا صخباً وضجيجاً. وليس من الضروري دائماً أن يكون الدور الخارجي عسكرياً على الإطلاق، وقد يكفي الاهتمام والمتابعة ومع الضغوط السياسية، مع «الإيغاد» والاتّحاد الافريقي، وحتى الجامعة العربية ومجلس الأمن، ومراكز القوى الدولية في طليعتها. ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لمنع طاقة التدمير الذاتي الكامنة من الفعل والتأثير..
كاتب سوري