يبدو أن حديثنا في المقال السابق عن التعاون والتنمية، قد حفّز الدكتور شمس الدين خيّال، الخبير الاقتصادي والباحث في سياسات اقتصاد المؤسسات العامة، جامعة الرور/بوخم بألمانيا، لمدنا بمقتطع مختصر من دراسة مطولة حول سياسة اقتصاد الطاقة، قدمها في عدة مراكز بحثية في ألمانيا والسودان، آخرها جامعة الخرطوم بتاريخ 10 شباط /فبراير 2020. والمقتطع، في نظري وبعد قراءته بتمعن، يكتسب أهمية كبيرة لثلاثة أسباب رئيسية. السبب الأول، هو ما ظلت تعانيه أوضاع الطاقة في السودان من تدهور مستمر خلال الخمسة عقود السابقة، لدرجة الوصول إلى حالة شبه الانهيار، خاصة قطاع الكهرباء، رغم الطنين الذي أزعجتنا به الإنقاذ حول إنتاج الكهرباء المتوقع من سد مروي، وحول صادرات البترول من الحقول المكتشفة في البلاد. وقد لمست في المقتطع محاولة جادة من الدكتور خياّل لمخاطبة هذا الوضع المتردي للطاقة في السودان، عندما أرجع أسباب التردي إلى الفهم الخاطئ والسائد وسط النخب السودانية الحاكمة الذي يحصر تأمين الطاقة فقط في الحلول الفنية للتشغيل والإدارة لأدوات الانتاج والاستيراد القائمة، في حين المطلوب، وهذا هو السبب الثاني لأهمية المقتطع، وجود سياسة اقتصادية للطاقة وإدارتها، تنبع من الأهمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسة لتأمين الطاقة، باعتبار اقتصاد الطاقة هو المحرك الأساسي للتطور التنموي عبر توطين صناعات جديدة وخلق اماكن عمل في كل مجالات الاقتصاد. إن أي سياسة اقتصادية فعالة للطاقة في السودان، يجب أن تكون في إطار رؤية سياسية قومية لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ومتكافئة، يتم تنفيذها باستراتيجيات واقعية ترتكز على مبادئ التفعيل الاقتصادي، والانتاج المستدام، والحفاظ على البيئة. وبموجب هذه الرؤية تتمحور السياسة الاقتصادية في الالتزام بمبدأ التنمية المتكافئة والمتوازنة والمستدامة لكل أقاليم السودان، بآليات ترفع من معدل النمو الانتاجي، وفي نفس الوقت تقلل من التغير المناخي، وتضع أساسا على المدى المتوسط لما يسمى «التكنولوجية والصناعة الخضراء».
أما السبب الثالث لأهمية ما طرحه الدكتور شمس الدين، فهو إشارته إلى دور القطاع التعاوني في الانتقال الي نظام الطاقة المستدام، واعتباره ركنا أساسيا في الخطة الإستراتيجية للنهوض بقطاع الطاقة. فالقطاع التعاوني، في المجال الانتاجي أو الخدمي، يعتبر في علم الاقتصاد، من الآليات الفعالة في بناء مشاركة اقتصاديه ديمقراطية، وفي عملية التوزيع المباشر للثروة والدخل القومي، وفي تصحيح أداء السوق المحلي. لذلك، يصلح التعاون كأداة للسياسة الاقتصادية عندما تفشل سياسة السوق الحر في إحراز تقدم في اقتصاد البلد، وفي انتاج السلع الاستهلاكية بتكلفة واقعية للمستهلك. وبهذا الدور، يمثل القطاع التعاوني عاملا أساسيا في التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي والاقتصادي داخل الدولة. وبسبب ثقل الدين الخارجي، وشح مواردنا المالية، والوضع الاقتصادي المتردي، يجب على الدولة أن تتبنى سياسة اقتصادية قومية، يشارك في وضعها المواطنون، سواء عن طريق الجمعيات التعاونية أو الشركات المساهمة أو صناديق الاستثمار.
إن سياسة إشراك أكبر قطاع من المواطنين في المجال الانتاجي، تُعتبر آلية هامة في السياسة الاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل توزيع الدخل القومي
إن تكنولوجيا إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة، جعلت إمكانية المشاركة الشعبية في انتاج الطاقة من أهم السمات لبوادر الانتقال الى «نظام اقتصادي ديمقراطي مستدام» في العديد من الدول المتقدمة، التي يمكننا الاستفادة من تجاربها. ففي ألمانيا مثلا، يساهم الانتاج غير التجاري، بشقيه الفردي والتعاوني، بحوالي 47 في المئة من انتاج الطاقة الشمسية، حيث يبلغ مقدار الانتاج منها حوالي 18 في المئة من انتاج الكهرباء الكلي في البلد. وبجانب الانتاج من اجل الاستهلاك الشخصي والتغذية داخل الشبكة العامة وشركات المساهمة الشعبية، تلعب الجمعيات التعاونية العاملة في مجال إنتاج الطاقة، والتي وصل عددها الى 1817 في نهاية عام 2016، دورا مهما في إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة. وهذه الجمعيات تمد أعضاءها بالطاقة الكهربائية، إما مباشرة، وذلك على المستوي المحلي، أو بتغذية الشبكة العامة للكهرباء، على المستوى الإقليمي، من أجل توصيل الكهرباء لأعضائها في مواقع بعيدة عن منطقة الانتاج وبيع الفائض لغير الأعضاء. ونتيجة لذلك، فإن نجاح الانتقال الى نظام الطاقة المستدام في المانيا، الذي ينتج 48 في المئة من الانتاج الكلي، يعود بالأساس الى المشاركة الشعبية في الانتاج. وعموما، فإن القطاع التعاوني في كل المجالات في ألمانيا، ويضم 8500 جمعية تعاونية يشترك فيها 23 مليون عضو، يلعب دورا اساسيا في الاقتصاد الألماني المزدهر.
إن التجربة والخبرة السودانية في الجمعيات التعاونية الاستهلاكية، تمثل قاعدة انطلاق متينة للدخول في مجال سياسة اقتصاد الطاقة وإدارتها، حيث يمكن للتعاونيات انتاج الطاقة من المصادر المتجددة، الشمسية أو الهوائية أو من الكتل الحيوية، إما على المستوي المحلي، وذلك لمد الكهرباء إلى القرى والأحياء السكنية، أو المناطق الزراعية أو الصناعية أو الاسواق المحلية….إلخ.، أو على المستوى القومي من خلال حث السودانيين بالخارج وتحفيزهم لجذب مدخراتهم للاستثمار في تمويل مشاريع الإنتاج الكهربائي ذات العائد المادي، وذلك عن طريق تأسيس صناديق التمويل الاستثماري، أو تأسيس الجمعيات التعاونية للاستثمار. ومعروف أن سياسة تحفيز ودعم الجمعيات التعاونية في القطاع الانتاجي ذات جدوى اقتصادية عالية. فعلي سبيل المثال، يمكن عبرها الضغط علي الدولة للاستدانة من البنوك الأجنبية من أجل الاستثمار في مجالات البنية التحتية والانتاج العام. كذلك يمثل الاستثمار في الجمعيات التعاونية عائد مجز ومستدام للمواطن، يبعده من الاستثمار في مضاربات الأراضي والعقارات والسيارات، مما يساعد على نشوء سوق واقعي وحيوي لهذه القطاعات المهمة في حياة المواطن وفي اقتصاد الدولة.
إن سياسة إشراك أكبر قطاع من المواطنين في المجال الانتاجي، تُعتبر آلية هامة في السياسة الاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل توزيع الدخل القومي. وهذا يستوجب أن تحفّز الدولة وتشجع وتدعم القطاع التعاوني في مجال الانتاج والتمويل والتجارة، كجزء رئيسي في السياسة الاقتصادية، وأن تتبنى سياسة معلنة وواضحة الأهداف والآيات لمخاطبة المجتمع المحلي والمجتمع الدولي من أجل الدعم لبناء نظام تعاوني منتج.
كاتب سوداني