الخرطوم-“القدس العربي”: بتعيين الخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك رئيسا للوزراء، ومن قبله تعيين أعضاء المجلس السيادي بمكونيه المدني والعسكري، يدخل السودان حقبة جديدة تعلن انتهاء عهد الإسلاميين الذين استولوا على الحكم قبل ثلاثين عاما عبر انقلاب عسكري قاده العميد آنذاك عمر حسن أحمد البشير.
ويرى مراقبون أن السودان خاض خلال سبعة أشهر ثلاث ثورات، أولاها أطاحت بنظام البشير في الحادي عشر من نيسان/أبريل الماضي، وبعد يوم واحد أطاح الثوار بالجنرال عوض بن عوف الذي ترأس المجلس العسكري ثم خاضت الثورة معارك ضارية حتى توجت في الرابع من آب/أغسطس الحالي بإعلان دستوري قضى بتكوين مجلس سيادي مشترك وحكومة مدنية خالصة ومجلس تشريعي (أرجأ تكوينه ثلاثة أشهر) غالبية أعضائه من قوى الحرية والتغيير.
اختيار المجلس السيادي
واختير أحد عشر شخصا للمجلس السيادي هم عبد الفتاح البرهان رئيسا ومحمد حمدان دقلو(حميدتي) وياسر العطا وشمس الدين الكباشي وابراهيم جابر أعضاء من المجلس العسكري الذي تم حله بمرسوم جمهوري. أما أعضاء المجلس من قوى الحرية والتغيير فهم: عائشة موسى، حسن محمد ادريس، صديق تاور كافي، محمد الفكي سليمان، محمد حسن التعايشي واختيرت رجاء نيكولا عبد المسيح عضوا مدنيا بموافقة الطرفين.
جدل التكوين
وشهد تكوين المجلس السيادي جدلا كثيفا، وذلك بسبب الخلافات في قوى الحرية والتغيير في اختيار ممثليها الأمر الذي أدى لربكة في الجدول الزمني لتكوين هياكل الحكم الانتقالي وبدلا من أن يؤدي أعضاء المجلس القسم في التاسع عشر من آب/أغسطس تم ذلك في الثاني والعشرين من الشهر وتم تعيين رئيس الوزراء من جانب مجلس السيادة في اليوم نفسه.
وينتهي رئيس الوزراء من تعيين الوزراء في يوم 28 آب/أغسطس الجاري على أن يعتمد مجلس السيادة تعيين الوزراء في الثلاثين من آب/أغسطس، ويؤدون القسم في الحادي والثلاثين منه. ويشهد اليوم الأول من أيلول/سبتمبر أول اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء، ما يعني فعليا بداية الحكم المدني.
أهم ملامح الفترة المقبلة
ويعاني السودان من أزمة اقتصادية طاحنة وحسب المادة الثامنة عشرة من الاتفاق السياسي “يعتمد مجلس الوزراء خطة اقتصادية ومالية وإنسانية عاجلة لمواجهة التحديات الناجمة عن الأوضاع الاقتصادية والمالية والإنسانية الراهنة”.
وأوضح رئيس وزراء الفترة الانتقالية أهم ملامح برنامج حكومته عبر مؤتمر صحافي عقده عقب أدائه للقسم، والمتمثل في إيقاف الحرب ومعالجة أوضاع النازحين وإصلاح الخلل الاقتصادي وبناء نظام ديمقراطي يعتمد على العدالة والقانون. وأوضح حمدوك أن الكفاءة هي المعيار الأول في اختيار الوزراء، مؤكدا على الصرامة في معايير الاختيار. وأشار إلى أن من أهم أولوياته، مجانية التعليم ومحاربة الفقر والاهتمام بصحة المواطنين.
تعيين رئيس القضاء
وأثار قرار تعيين رئيس القضاء الذي أدى أمامه أعضاء المجلس السيادي ورئيس الوزراء القسم جدلا واسعا باعتبار أن الوثيقة الدستورية نصت على أن يتم تعيينه من قبل المجلس الأعلى للقضاء والذي لم يتم تشكيله بعد، غير أن مراقبين أكدوا أن “النص الذي يتيح لمجلس السيادة تعيين رئيس القضاء كإجراء مؤقت تمت إضافته بعد التوقيع بالأحرف الأولى وقبل التوقيع النهائي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري”.
التفاؤل يسود
ويسود التفاؤل أوساط السودانيين ببدء صفحة جديدة من حياتهم توقف الدائرة الجهنمية المتمثلة في الديمقراطية القصيرة وانقلاب العسكر خاصة وأن النظام الجديد جاء بحسب الإعلان السياسي “استجابةً لنداء ثورة ديسمبر المجيدة وتحقيقاً لأهداف إعلان الحرية والتغيير المتوافق عليها بين الأطراف لتصفية نظام الثلاثين من حزيران/يونيو 1989 وإنفاذ تدابير العدالة الانتقالية ومكافحة الفساد واستعادة الأموال العامة المنهوبة، وإنقاذ الاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية ودولة الرفاه والرعاية الاجتماعية وإصلاح أجهزة الدولة والخدمة العامة”.
عمل شاق ينتظر الحكومة
لكن التفاؤل وحده لا يكفي كما يقول محمد الفكي سليمان عضو المجلس السيادي وأحد الشباب الذي يعول عليهم في تحقيق أهداف الثورة، ويقول لـ”للقدس العربي” إن التفاؤل يجب أن يسنده عمل شاق ودؤوب وفق برنامج قوى الحرية والتغيير الذي توافقت عليه قبيل سقوط البشير، خاصة وأن هذا البرنامج وفقا للفكي مصحوب بجدول زمني ضاغط عمره ثلاث سنوات لتصفية دولة الحزب الواحد التي استمرت لثلاثين عاما.
ويقول الفكي إن أبرز التحديات التي تنتظرهم هي الوضع الاقتصادي السيء وانقاذ العمال وحتى الطبقة الوسطى من براثن الفقر والمسغبة واستعادة الأموال التي نهبت خلال نظام البشير، إضافة لمواجهة الأزمات الطارئة وفي مقدمتها أزمة السيول والفيضانات والتي تحتاج لتحرك سريع وعاجل.
ملف السلام
وحسب عضو المجلس السيادي فإن ملف السلام يأخذ أولوية قصوى ويقول: “لابد من تحرك سياسي سريع وإلحاق الحركات المسلحة بعملية البناء والتنمية، التي لن تتم بدون استقرار”.
وجاء في الإعلان السياسي” توضع السياسة والمنهج الفعال لتحقيق السلام الشامل في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بالتشاور مع كافة الحركات المسلحة.
ويعمل على إنهاء عملية السلام الشامل في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق”.
قدرة على التسامح وتقديم التنازلات
ويضيف محمد الفكي أن البلاد تحتاج لإرادة سياسية قوية وقدرة على التسامح وتقديم التنازلات من أجل الوطن، مشيرا إلى أن البلاد تشهد ثورة كبيرة وتقديم تضحيات جسام وتسوية حقيقية لمشاركة الجميع.
ويخلص إلى إن الثورة محروسة بالشارع الذي استطاع الإطاحة بنظام البشير رغم آلة القمع الضخمة وكمية الدماء التي سالت ويرى أنهم في المجلس السيادي والحكومة المرتقبة ملتزمون تماما بتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها السودانيون للشارع وقدموا في سبيلها الأرواح.
تحديات تشكيل الحكومة
وقال المحلل السياسي خالد التيجاني، إن الحكومة الانتقالية في السودان تواجه تحديات عديدة في مقدمتها تشكيل الحكومة نفسها، منوها إلى أن التجربة العملية في تكوين المجلس السيادي أفرزت بعض السلبيات. وأشار في حديثه لـ”القدس العربي” أن طريقة تكوين المجلس السيادي جاءت مخالفة للوثيقة الدستورية وابتعدت عن روح الثورة وخضعت للمحاصصة الحزبية.
وأوضح التيجاني أن أول امتحان سوف يقابل حمدوك هو كيفية تحقيق شروط اختيار الوزراء، وأكد أن اختيار المجلس السيادي لم يجد القبول والارتياح الكبير نسبة للربكة التي سادت تكوينه، مشيرا إلى أن تكوين الحكومة وطريقة اختيارها هو الذي يحدد مستقبلها.
انسجام العسكر والمدنيين
ودلف خالد التيجاني إلى التحديات التي سوف تواجه الحكومة الجديدة وفي مقدمتها مدى الانسجام والتناغم بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة، الأمر الذي ربما يضع العراقيل في طريق الحكومة ويشير إلى ما حدث في شأن تعيين رئيس القضاء والنائب العام وتجاوز الوثيقة الدستورية في ذلك الأمر.
ولخّص التيجاني جملة من التحديات والأولويات التي تواجه الحكومة منها تحقيق السلام والعدالة والقضاء على الفساد وأزمة الخبز المستمرة وغيرها من الأزمات التي يعيشها الشعب السوداني، وأوضح أن كل هذه الأزمات هي أعراض للفشل في إدارة الاقتصاد، مؤكدا أن نجاح الحكومة وفشلها يكمن في قدرتها على إقناع الشعب السوداني بمزيد من الصبر.
كنس نظام البشير
ويتفق الخبير السياسي صلاح الدومة مع المصدر السابق في وجود جملة من التحديات تواجه الحكومة الانتقالية في السودان لكنه يختلف معه في ترتيب هذه التحديات ويشير في حديثه لـ”القدس العربي” إلى أن الخطر الأكبر هو في وجود بقايا وفلول حزب المؤتمر الوطني خاصة في (المجلس السيادي).
ويرى أن الإرادة السياسية الحقيقية تتطلب وجود سياسة حقيقية تنقل الناس من مربع الأقوال إلى الأفعال الملموسة، مؤكدا أن المرحلة المقبلة تحتاج لتطبيق شعارات الثورة فعليا وفي مقدمتها كنس رموز وبقايا النظام البائد ويقول: “الخطوة الأولى هي إعادة محاكمة البشير بتوجيه التهم الحقيقية مثل تهمة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في دارفور وكذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فضلا عن الانقلاب على الشرعية الدستورية وتقويض النظام الديمقراطي”. ويصف صلاح الدومة محكمة البشير الحالية بالمهزلة القانونية.
ويقول المصدر أن إصلاح الاقتصاد أمر هين في وجود أيد أمينة، مشيرا إلى إن وقف استنزاف الخزينة العامة بالدفع للقوى الأمنية التي كانت تستحوذ على غالبية الميزانية سيسهم كثيرا في تحسين الاقتصاد، فضلا عن جهود الأصدقاء على المستويين الإقليمي والدولي والرامية لدعم السودان في كافة المجالات.
الترويكا ترحب وتعد بالدعم
وأصدرت دول الترويكا (المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج) بيانا رحبت من خلاله بتعيين حمدوك على رأس الحكومة الجديدة، مشيرة إلى أن السودان يعبر في لحظة تاريخية إلى وضع جديد بإقامة سلام دائم ووضع دستور يضمن حماية حقوق الإنسان ودعت الترويكا الحركات المسلحة للانخراط في عملية السلام وأعلنت دعمها للحكومة الانتقالية بقيادة مدنية وحثت على إكمال التحقيقات بشأن العنف الذي تعرض له المتظاهرون السلميون.
أمريكا على الخط
وفي ذات الإطار أوضح دونالد بوث، المبعوث الأمريكي للسودان، أن بلاده تساهم مع شركائها الدوليين الآخرين في دعم جهود السودان في تحقيق التنمية الاقتصادية، وحسب وكالة الأنباء الرسمية في السودان، فإن لقاء المسؤول الأمريكي ومساعد وكيل الخارجية السوداني، تطرق إلى قرب استئناف الحوار بين البلدين، حيث يأمل السودان في تطبيع كامل للعلاقات ورفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وأكد بوث استمرار الولايات المتحدة في دعم الحكومة المدنية في السودان.
مجلس الأمن يرحب
ورحب مجلس الأمن الدولي بالتحول الذي حدث في السودان وتكوين المجلس السيادي وتسمية رئيس الوزراء وقال المجلس في بيان صحافي أن ما حدث يمثل خطوة مهمة لتحقيق السلم والأمن في السودان. وعبر المجلس عن ترحيبه بتعهدات الحكومة الانتقالية بضمان التنفيذ الفعال للاتفاقيات الانتقالية الموقعة بين كل الأطراف السودانية.
ولفت عبر بيانه للمجهود الدولي والإقليمي الذي توج باتفاق المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بالسودان ممثلا في دور الاتحاد الافريقي وأثيوبيا وجامعة الدول العربية ومنظمة الإيقاد.
وأعرب المجلس عن ترحيبه بتعهد الأطراف السودانية باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير وحرية التجمع السلمي وحرية الأديان والمعتقدات والتزام الأطراف بالمساءلة والعدالة، مشيدا بالتزام السودان بإنشاء لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في أعمال العنف التي ارتكبت في الثالث من حزيران/يونيو 2019 وغيرها من حوادث انتهاكات حقوق الإنسان.
وعبر كذلك عن ترحيبه بالالتزام الوارد في الاتفاقيات بتحقيق السلام العادل والشامل والمستدام في السودان عبر المعالجة الجذرية لأسباب الصراع والآثار التي خلفتها الحروب.
ودعا مجلس الأمن إلى ضرورة استئناف المفاوضات وصولا لحلول سلمية للنزاع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وشجع جميع الأطراف على المشاركة بصورة بناءة وفورية وبدون شروط مسبقة في هذه المفاوضات، ودعا إلى الحماية الكاملة للمدنيين، بما في ذلك تيسير وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن وبدون عوائق إلى مناطق الصراعات في السودان وجدد تأكيده بالالتزام القوي بوحدة السودان وسيادته واستقلاله وسلامته الإقليمية.