الخرطوم ـ «القدس العربي»: رغم مرور أكثر من شهر على سقوط البشير لا يزال السودانيون يشعرون بأن أيدي النظام السابق هي التي تدير البلاد، ومنذ البيان الأول للمجلس العسكري الانتقالي تأكد الناس أن نظام الانقاذ لم يسقط بل غاب فقط عمر البشير.
وعقب تلاوة البيان الأول من قبل وزير دفاع البشير عوض بن عوف في الحادي عشر من الشهر الماضي، تفجرت الأحداث وردود الأفعال داخليا وخارجيا ورفضت كل القوى المعارضة ما جاء في البيان واعتبرت الوضع الجديد امتدادا للانقاذ وظلت الجماهير معتصمة حتى اليوم رغم سقوط بن عوف نفسه بعد يوم واحد فقط من استلامه للسلطة.
الجموع التي اعتصمت أمام مبنى قيادة الجيش في السادس من نيسان/أبريل الماضي لم ترجع وأقامت مكونات تجمع المهنيين السودانيين تظاهرات ضخمة كانت الأولى منها بعد أسبوع من سقوط البشير، واصلت من خلالها الضغط على المجلس العسكري في السودان بضرورة تسليم السلطة لحكومة مدنية متوافق عليها من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير وكنس رموزالسلطة السابقة ومحاسبتهم قضائيا.
ويرى عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة «التيار» السودانية إن الوضع الحالي سببه غياب الرؤية الواضحة حول مستقبل البلاد من الطرفين (المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وفصيلها المهم تجمع المهنيين) ويشير إلى أن الجميع تعاملوا مع الحدث الكبير بطريقة (فاصل ونواصل).
ويقول لـ»القدس العربي»: «حدث تأخر كثير في استلام هياكل السلطة الموجود والمعدة سلفا من ثلاثة مستويات (سيادي وتنفيذي وتشريعي) وتأخير استلام هذه الهياكل من قبل سلطة مدنية يعد خللا كبيرا تسبب فيما يحدث الآن».
ويضيف أن قوى الحرية والتغيير أصبحت تطالب المجلس العسكري بمهام هي في الأصل من صميم عمل الحكومة المدنية مثل محاكمة رموز نظام البشير ما أدى لشعور المجلس بأنه صاحب الحكم والإدارة في البلد.
وعلى الجانب الآخر، يبيّن ميرغني أن المجلس العسكري وقع في خطأ كبير وهو الدخول في لقاءات مع مجموعات سياسية كانت جزءا من نظام البشير حتى اللحظات الأخيرة قبل السقوط، حيث اعتزمت هذه المجموعات تسيير مظاهرة مضادة للثوار قبل يوم من سقوط النظام، ويصف ذلك بالعبث السياسي الكبير، مشيرا إلى أن الحوار مع هذه القوى فيه استفزاز للثورة وإضاعة للوقت.
وحسب عثمان ميرغني فإن قوى إعلان الحرية والتغيير هي الممثل الشرعي الوحيد للحراك الجماهيري وهي مفوضة عمليا من قبل الشعب وحصلت على استفتاء تام من الجماهير، ويرى أن توازن القوى يعطيها هذا الحق، فهي التي «أطاحت بالبشير بعد ثلاثين عاما من الاستبداد وهي موجودة الآن في الشارع وكلمتها هي الأقوى، ويؤخذ على قوى الحرية والتغيير أنها لا تقدر حجمها وقوتها ومنذ اللحظات الأولى للتغيير كانت تمسك زمام المبادرة وتقود التفاوض بقوة وتقوم بإنزال هياكل الحكم على أرض الواقع».
ويرى صلاح الدومة، أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، أن السودان يعيش حاليا مرحلة خطف الثورة، وهذا محك خطير أصعب من نجاح الثورة نفسها، ويصف المجلس العسكري بأنه جزء من نظام الانقاذ يتحدث عن عقبات لا وجود لها ويطالب بوجود تفويض لقوى الحرية والتغيير علما بأنها تمتلك الشارع حتى هذه اللحظة.
ويقول لـ»القدس العربي» إن قوى الحرية والتغيير تتمتع بشرعية ثورية مباشرة مستمدة من الملايين الموجودة في الشارع وبإمكانها شل حركة البلاد عبر الاعتصام والعصيان المدني الشامل إن تطلب الأمر ذلك، ولكن المجلس العسكري يدفن رأسه في الرمال.
ويرى الدومة أن الفراغ الموجود الآن ليس في مصلحة الجميع وليس في مصلحة المجلس العسكري نفسه والذي يأخذ وجوده من انحيازه للثوار ولإرادة الشعب، ويضيف: «الذين أسقطوا البشير رغم قبضته الأمنية ومن بعده عوض بن عوف، ثم ثلاثي المجلس العسكري، قادرون على أسقاط كل من يقف ضد إرادتهم المتمثلة في حكومة مدنية بكافة الصلاحيات».
وحول تهديد المجلس العسكري لقوى الحرية والتغيير بقيام انتخابات خلال ستة أشهر إذا لم يحدث اتفاق يقول الدومة: «المجلس لم يستطع حتى الآن تكوين حكومة فكيف يتحدث عن الانتخابات التي تحتاج لفترت طويلة وامكانات مادية وفنية وإجراءات إدارية معقدة لا تتوفر في الوقت الحاضر».
ويصف المجلس العسكري بأنه ما زال يتحدث بعقلية الماضي ويتقمص دور النظام البائد الذي كان جزءا منه حتى اللحظات الأخيرة قبيل سقوطه، ويضيف الدومة متحدثا عن المجلس العسكري: «بل هو في غيبوبة إذ تحدث في الأسبوع الأول من التغيير عن عزمه إرسال وفد لأمريكا لبحث رفع اسم السودان من قائمة العقوبات، فكيف يرسل وفدا والبلاد بدون حكومة؟ من الذي سيتفاوض مع الإدارة الأمريكية؟ إنهم يجهلون أبجديات العمل السياسي لذلك من الأفضل لهم تسليم السلطة لقوى مدنية وبأسرع وقت».
ويخلص الدومة إلى أن المجلس العسكري يتعامل بعقلية نظام البشير الذي كان يرفض الأمر وهو في موقف جيد وسقف عال من التفاوض ثم يضطر للقبول به وبأعلى مما يتوقعه الخصوم ويدير البلاد بنظرية رزق اليوم باليوم ويضيف: «سيستجيب المجلس العسكري عاجلا لمطالب الشعب ليس لأنه يواجه ضغوطا خارجية لا قبل له بها، ولكن لأنه يقع الآن تحت ضغط قوى الحرية والتغيير ومن خلفها وأمامها جموع الشعب السوداني».
وعلى صعيد ميدان الاعتصام، تتواصل الضغوط والتظاهرات، حيث شهد ميدان الجيش أول صلاة جمعة في رمضان بحضور أعداد ضخمة من المحتجين، ظلت ليالي رمضان تشهد يوميا مسيرات ضخمة من أنحاء ولاية الخرطوم تصل إلى ميدان الاعتصام وتنضم للمحتجين، وشعارها هو تسليم السلطة لحكومة مدنية.
ويتكر المشهد في ولايات السودان حيث يتجمع المواطنون يوميا لدعم الاعتصام أمام مقار الجيش بالمدن الكبيرة وشهدت الأيام الماضية عودة تظاهرات الأحياء في العاصمة والولايات بسبب نقص مياه الشرب وعدم وجود دقيق الخبز واختفاء المحروقات من محطات الوقود، وهي الأسباب التي أطاحت بنظام البشير.