السودان: تراجع العسكر أم تنازل المدنيون؟

حجم الخط
6

أثار توقيع اتفاق بين المكوّنين العسكري والمدني ردود فعل كبيرة ضمن القوى السياسية في السودان، وكانت الظاهرة الأبرز ضمن هذه الردود ارتفاع الأصوات المعارضة للاتفاق الجديد بين الحركات والأحزاب التي وقّعت سابقا اتفاق الانتقال السياسي الذي أدى لنشوء مجلس السيادة والحكومة السابقين واعتمادهما ما يعرف بـ«بالوثيقة الدستورية» وهي القوى التي اختارت، حينها، عبد الله حمدوك لتمثيلها كرئيس للحكومة، وعلى رأسها كل من «قوى التحرير والتغيير» التي تجمع ائتلافا واسعا من الحركات والأحزاب أهمّها «تجمع المهنيين السودانيين» وحزب «الأمة القومي» و«الحزب الشيوعي السوداني».
حصل الاتفاق في يوم مظاهرات واسعة جديدة في مدن السودان، وعلى رأسها العاصمة الخرطوم، التي استمر فيها تقدم الآلاف من المتظاهرين نحو القصر الجمهوري، الذي كان حمدوك قد وصل إليه لتوقيع الاتفاق بعد فك الإقامة الجبرية عنه، وسرعان ما قام بعض المتظاهرين، الذين كانوا يرددون شعارات تهاجم «الانقلابيين» وتندد بإجراءات البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) بترديد شعارات تهاجم حمدوك!
يعبّر الاتفاق، بداية، عن تراجع المكوّن العسكريّ، عمليا، عن خطّته لفرض حكم عسكري مطلق للسودان.
نتج هذا التراجع من إدراك البرهان، وحميدتي (شريكه في الحكم) إن هذه الخطة (حاليّا على الأقل) غير ممكنة التطبيق، وذلك لأن القوى السياسية التي استطاع المكوّن العسكريّ من جمعها لتأييد خطته غير كافية لتقديم تغطية سياسية مقبولة محلّيا أو عالميا، وهذا ما يعني أن الصراع السياسيّ سيستمرّ وأن العنفوان الشعبيّ المعبّر عن هذا الصراع سيستمر بالضغط على المكوّن العسكريّ.
انتبه عديدون إلى أن خطاب البرهان الانقلابي كان أقرب ما يكون إلى نسخة من الخطاب الذي أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين أعلن استيلاء الجيش المصري على السلطة عام 2013، وهو ما يشير إلى أن «السيناريو المصري» كان موضوعا على طاولة الانقلابيين السودانيين، وداعميهم الإقليميين والدوليين.
لم يكن ممكنا، ضمن السياق السودانيّ، على سبيل المثال، أن يقوم البرهان وحميدتي بتطبيق «السيناريو المصريّ» عبر التصدّي الدمويّ المفتوح للتظاهرات، مع ما يعنيه ذلك من سقوط مئات أو آلاف القتلى، فهذا السيناريو، الذي أمكن تطبيقه في مصر، كان موجّها، بشكل رئيسي، إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وأنصارها، وقد تمكّن النظام، حينها، بتواطؤ مباشر، أو بدعم من النخب السياسية المصرية الأخرى، من تنفيذ تلك المجزرة، كما تكفّل خضوع القوى السياسية المصريّة، الضعيفة أصلا، وإرهاب الفئات الشعبية المناصرة للإخوان، وكذلك دعم الأنظمة العربية، وسكوت المنظومة الدولية (أو قبولها المضمر) من تثبيت أركان العسكر.
يعبّر الاتفاق، أيضا، عن تنازل المكوّن المدني، وذلك عبر القبول بمجلس السيادة الجديد الذي ألّفه العسكر وحدهم، وكذلك قبول إشرافه على تنفيذ مهام الفترة الانتقالية، إضافة إلى قبول «تعديل الوثيقة الدستورية» و«تشكيل حكومة مدنية مكونة من الكفاءات» و«إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام» البشير، وهي كلها شروط وضعها المكوّن العسكري بعد الانقلاب.
الاتفاق، على ضوء هذه الوقائع المذكورة، يمثّل نقطة توازن جديدة حرجة بين المكوّنين العسكري والمدنيّ (وما بينهما من حركات عسكرية ـ سياسية). لقد تراجع العسكر عن خطتهم للسيطرة المطلقة على الحكم، وتنازل المدنيون عن مجمل الشروط السابقة التي حكمت «الوثيقة الدستورية» التي كانت من أسباب تفجير الانقلاب، ومنها موعد انتقال السلطة في المجلس السيادي إلى العسكريين، ولجنة تفكيك نظام البشير، وآلية محاسبة المسؤولين العسكريين عن «مجزرة القيادة العامة» عام 2019.
معلوم أن الاتفاق الجديد لن يرضي المكوّنات السياسية والمدنية السودانية، لكنّه، من جهة أخرى، قدّم مثالا عربيا على إمكانية وقف محاولات العسكر للهيمنة المطلقة على السلطة، وتكتسي هذه الواقعة أهمية كبيرة لأنها تقدّم طريقا آخر لا يؤدي إلى استحكام الطغيان، الذي هو حرب أهليّة مضمرة، كما في أكثر من بلد عربي، أو ناشطة، كما هو الحال في سوريا واليمن والعراق.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبسا الشيخ:

    تحياتي لقدسنا العزيزة علينا
    تنازلات من كلا الطرفين، ولكن بضغط من الجهة المعروفة

  2. يقول أحمد سالم:

    ما زلت لا أستطيع ان أستوعب ان الانظمة العربية من المحيط الى الخليج تماك برنامج سياسي او اقتصادي او إجتماعي عاجل للخروج من الفوضى والدمار الذي حل بالمنطقة.
    السودان كمثال وككل الدول العربية تقريبا تملك من المؤهلات الاقتصادية والثروات الطبيعية ما لا تملكه دول تعتبر من أكبر اقتصادات العالم، كاليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا والقائمة طويلة من دول لا تملك لا بترول ولا غاز ولا جبال من الذهب والمعدن النفيس. لكن الدخل الفردي فيها تفوق عشرات المرات الدخل الفردي العربي الذي ما زال لا يستطيع ان يضمن قوت يومه لأكثر من شهر.
    ما دام الجيش في معظم دولنا العربية يحكم بعقلية السلاح والتخويف والترهيب للجمع بين السلطة والاقتصاد والبزنس، فالكوارث والنكبات والحروب والدمار ستزداد وتتوسع. فنظرية الفزياء لكل فعل ردة فعل تخضع لها الأمم وسياستها المتبعة. وفي لبنان واليمن وسوريا والعراق وليبيا والجزائر وإيران خير مثال على ان الخلط بين مهام العسكري والسياسي سيؤدي حتما الى عواقب خارج السيطرة.

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    إستمرار الوضع كما هو عليه!
    أي أن السيادة بالسودان لازالت مع سيادة العسكر!!
    والسؤال هو:
    متى تتخلص الشعوب العربية من حكم العسكر؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول تيسير خرما:

    بدول العرب منتسبوا أجهزة عسكرية وأمنية وأقرباؤهم وأصدقاؤهم يجاوز نصف السكان وبيئة الأعمال والصناعة والأغلبية الصامتة والأقليات تفضلهم على الفوضى، بالتالي لا يصل موقع مسؤولية أو يبقى فيها إلا من كان منهم أو مدعوماً منهم ويتسلحون عادةً بثقافة عربية إسلامية سمحة جامعة مع تمسك بهوية وطنية فتصبح معاداتهم بمثابة خيانة عظمى للوطن والأمة، وبات الغرب يفضل نظام قوي يكافح إرهاب ومخدرات ولن يكرر تجارب فاشلة بتنصيب شراذم معارضة خارجية وداخلية بالحكم تنهب ثروات وتشيع فوضى وتفتح مجال تدخلات إقليمية تسنزف الغرب

  5. يقول سامح //الأردن:

    *كل التوفيق للسودان الشقيق بغد مشرق مزدهر إن شاء الله.
    حسبنا الله ونعم الوكيل في كل فاسد.

  6. يقول عابر سبيل:

    لا تراجع عسكر ولا تنازل مدنيون بل التفاف العسكر وتنازل حمدوك … العسكر تلطخت أيديهم بدم الشعب السوداني ويريدون كسب الوقت فقط حتى ينقضوا على الحكم … أما حمدوك فلا يملك من أمره شيئا ..

إشترك في قائمتنا البريدية