كان رأيي دائما أن انفصال جنوب السودان لم يكن ضروريا لأنه لا يحقق هدفا، سواء كان ذلك لأبناء الجنوب أم لأبناء الشمال، وذهبت إلى أبعد من ذلك إلى القول إن وحدة السودان جغرافية وليست سياسية، وأعني بذلك أن أي إقليم يفكر في الانفصال سيجد نفسه أمام مشكلات اقتصادية وسياسية وحركية يصعب التغلب عليها، ويظهر ذلك واضحا في المشاكل التي بدأت تطل برأسها في الوقت الحاضر بين دولتي الشمال والجنوب في السودان، وقد شاهدت أخيرا كثيرا من النساء والرجال الذين عاشوا حياتهم في شمال السودان ثم وجدوا أنفسهم يرحلون إلى وطن لم يعرفوه قالوا لهم إن هذا هو وطنهم مع أنهم لا يتحدثون لغته ولا يعرفون عاداته، وتساءلت ألم يكن من الممكن أن يحمل هؤلاء الجنسية المزدوجة أسوة بكثير من الدول الأوروبية التي تمنح جنسياتها للمهاجرين دون أن تطالبهم بالتخلي عن جنسياتهم الأصلية، خاصة أن السودان بلد واسع الأطراف وليس ثمة ضرر في أن يتعايش فيه المواطنون في أي مكان يريدونه؟
هذا الواقع جعلني أتساءل، هل من الممكن عودة الوحدة بين دولتي الشمال والجنوب مرة أخرى ؟
لا شك أن هذا ليس هو الخيار المطروح عند كثير من السياسيين في الشمال والجنوب، ذلك أن بعض الجنوبيين يعتقدون أن إقامة دولتهم الخاصة يريحهم من الاضطهاد الذي عانوه في الشمال، كما أن كثيرا من الشماليين يقولون إن الانفصال يريحهم من التمرد وسفك الدماء المستمر بين الإقليمين، ولكن ربما كانت هذه مرحلة أولى في علاقات الشمال والجنوب، ولكن هل ستصلح هذه الحالة لتكون هي أساس العلاقة المستقبلية بين الإقليمين، ذلك ما دفعني كي أنظر في الأسباب التي كانت وراء انفصال جنوب السودان، وتوقفت هنا عند مقالة مهمة كتبتها أسماء عبد الرازق بعنوان ‘انفصال جنوب السودان، نتيجة، فما أسبابه؟’
وقد حددت أسماء في البداية مجموعة من الأٍسباب قالت إنها كانت المرتكز الرئيسي لانفصال جنوب السودان، ويمكن أن نلخص هذه الأسباب في ما يلي:
أولا: شعور الجنوبيين بالاضطهاد وإحساسهم بأنهم كانوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.
ثانيا: عدم احترام الشماليين لمعتقدات الجنوبيين الدينية والوثنية وقياسها من منظور واحد هو الثقافة العربية والإسلامية.
ثالثا: إهمال مشاريع التنمية في الجنوب وتركيزها في مناطق الشمال فقط .
رابعا: استرقاق الشماليين للجنوبيين، ويقول الجنوبيون في ذلك إن الذي خلصهم من هذا الاسترقاق هو الحكم الإنكليزي.
وسواء كانت هذه الاتهامات صحيحة أم غير صحيحة فلا شك أنها كانت هي المحرك الأساسي لكثير من حركات التمرد التي عمت جنوب السودان والتي كلفت السودان كثيرا.
ونلحظ من جانب آخر أن الكاتبة أسماء لجأت إلى مذكرات ‘جوزيف لاقو’ لتثبت أن الحال غير الحال، بقولها إن ‘لاقو’ الذي قاد تمردا في جنوب السودان تزوج من امرأة مسلمة وسمى أحد أولاده باسم ‘حسن’.
وتحمل أسماء من جانب آخر الانجليز مسؤولية إدخال اللغة الانكليزية بدلا من اللغة العربية في جنوب السودان وكذلك مقاومة التعريب، حتى إن خياطا أعدم لأنه خاط ثوبا عربيا لأحد أبناء الجنوب دون أن تذكر أسماء إن اللغة الإنكليزية لم تكن قصرا على أبناء الجنوب فقط، إذ كانت تعلم لأبناء الشمال أيضا، وكان الإقبال عليها كبيرا خاصة أن الشهادة الثانوية في عهد الإنكليز كانت تمنح من لجنتي التعليم في ‘كيمبردج’ و’أكسفورد.ٍ’
وتعلل أسماء قرار حكومة الفريق إبراهيم عبود وقف التبشير في جنوب السودان وطرد القساوسة الأجانب بأنه كان قرارا سياسيا ولم تكن له أهداف دينية، دون أن توضح كيفية التفريق بين الديني والسياسي، خاصة أن حكومة الفريق إبراهيم عبود حولت العطلة في الجنوب من يوم الأحد إلى يوم الجمعة. وتقول أسماء إن وصف الجنوبيين بالأفارقة النصارى والوثنيين حق أريد به باطل، ذلك أن الجنوبيين يصفون أنفسهم بأنهم وثنيون، ولكن نسبة النصارى والمسلمين متساوية في نظرها، وترى أن قصة استرقاق الشماليين للجنوبيين لم تقم على أساس صحيح إذ كانت من الدعاية التي لجأت إليها الكنيسة والاحتلال لتبرير بقائهم وسيطرتهم على مقدرات الجنوب، ولا أدري كيف اتهمت أسماء محمد علي باشا بأنه أول من مارس تجارة الاسترقاق في السودان لأسباب اقتصادية وأطماع شخصية. وتذهب أسماء إلى القول إن تهمة تهميش الجنوب في مشاريع التنمية تهمة غير صحيحة لأن كثيرا من مناطق الجنوب كانت من وجهة نظرها أفضل حالا من مناطق الشمال، ولكنها تعترف في الوقت ذاته أن قلة المشاريع في الجنوب كانت بسبب الفساد المالي وتكاثر حالات التمرد والثورات في تلك المناطق.
وباختصار شديد فإن أسماء تهدف إلى تبرئة الشمال من أي مسؤولية في انفصال جنوب السودان، أما إذا توقفت عند الأسباب الحقيقية للانفصال فهي تركزها في ما يلي :
أولا: التعبئة العنصرية والكنسية ضد العرب والمسلمين الذين يصورون دائما على أنهم مستعمرون وعنصريون وأنهم مسؤولون عن استعباد كثير من المواطنين الجنوبيين.
ثانيا: التدخلات الأجنبية خاصة من دول الجوار التي ترى أن لها مصلحة في هذا الانفصال.
ثالثا: سوء الإدارة في البلاد منذ عهد الاستقلال وهو ما أوجد ظروفا تستوجب البحث عن حلول أخرى، وقد اعتقد الجنوبيون أن إقامة دولتهم المستقلة سوف تحقق لهم ذلك.
رابعا: فقدان الثقة بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال.
وتبدو كل هذه الأسباب موضوعية، وكانت بالفعل سببا في انفصال جنوب السودان، ولكن من جانب آخر يجب أن نرى الخطأ في تصور العلاقة بين الشمال والجنوب، إذ ما زلنا حتى الآن نرى بعض القادة الشماليين يظهرون على شاشات التلفزيون ليقولوا إن انفصال الجنوب أراحهم من الحروب والاقتتال دون أن يفكروا بطريقة موضوعية في ما يمكن أن يحدث في البلاد نتيجة هذا الانفصال، خاصة مع تزايد الحركات الجهوية التي لها مطالب لا تختلف عن مطالب الجنوبيين، ويبدو ذلك واضحا في دارفور والنيل الأزرق وأبيي وغير تلك من المناطق، ونحن هنا لا نعترض على أن يرفع أي شخص صوته ليجأر بالشكوى، ولكن يحب ألا يكون التوجه عند الجميع نحو تدمير الكيان القائم، ذلك أن السودان بما يحتوي عليه من ثروات زراعية وحيوانية ومائية قابل لأن يوفر الحياة الكريمة لكل طالبيها، وإذا كانت هناك أخطاء في تطبيق السياسات فيجب أن يجلس الجميع من أجل البحث عن الحل لا تجييش الجيوش من أجل المواجهة، ذلك أن الانتصار في معركة عسكرية أو قتالية لا ينهي المشكلات التي تحتاج دائما إلى التوافق بين سائر الأطراف، وبالنسبة لجنوب السودان فلا شك أن الانفصال كان بسبب إرادة شعبية جاءت عن طريق استفتاء، ولكن ذلك ليس نهاية المطاف، لأننا رأينا على شاشات التلفزيون كثيرا من النساء اللائي رحلن إلى الجنوب يبكين ويقلن إنهن عشن في الشمال ولا يعرفن وطنا سواه، فلماذا يحرم هؤلاء من الوطن الذي عشن فيه، ونحن نؤكد أن وحدة السودان ستكون في المستقبل القريب مطلبا شعبيا في إقليمي الشمال والجنوب، وذلك بعد أن يدرك الجميع أخطاءهم، وعند ذلك ستتحقق وحدة السودان من جديد، والمطلوب في هذه المرحلة ليس التنازع، بل الجلوس لممارسة التفكير القويم من أجل تصحيح الأخطاء حتى لا يجد الجميع أنفسهم في مواجهات لا داعي لها.
‘ كاتب من السودان