السودان وأزمته الاقتصادية عنوان للدولة الفاشلة

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

يعاني السودان من أزمة مركبة نتيجة التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، وأزمة الغذاء، وارتفاع تكلفة التمويل على المستوى العالمي، بينما البلد لا يبدو مؤهلا من الناحية السياسية والإدارية لصوغ سياسة عملية تقلل الأضرار الناجمة عن هذه التداعيات، خصوصا ارتفاع أسعار الغذاء والوقود وتدهور قيمة الجنيه السوداني. وقد تحولت المؤسسة العسكرية الحاكمة إلى مجرد جماعة مصالح خاصة تسعى للتربح من الأزمات بأقصى ما تستطيع. وفي ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة للسلطة التنفيذية، وجدل بشأن برنامج الطوارئ الذي تقترحه «الآلية الثلاثية» فإن التقلبات على المستوى العالمي تترك آثارا سلبية مضاعفة محليا، خصوصا مع انتشار الفساد الإداري، وظاهرة الاحتكار في السوق التي تعكس تشابك المصالح بين العسكريين وبين جماعات من التجار والمستوردين والمهربين المحترفين. ونتيجة لأن ارتفاع الأسعار لا تقابله زيادة متناسبة في الدخل، فإن انتشار الفقر وزيادة حدته، وسقوط أجزاء من الطبقة الوسطى إلى الحضيض، أصبحت مظاهر ملموسة في الحياة اليومية للسودانيين. وتقدر مفوضية الضمان الاجتماعي بالسودان في الإحصاء الذي أعلنت نتائجه في ايلول/سبتمبر عام 2020 أن 77 في المئة من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر المقدر بدولار واحد و25 سنتا للفرد يوميا، ولا شك في أن الحال اليوم هو أسوأ مما كان عليه.

أزمة الغذاء

تفاقمت أزمة الغذاء بصورة حادة، بسبب تخبط السياسات التنفيذية، وتأثير الجفاف الذي ضرب 14 ولاية بنسب متفاوتة، منها ولايات دارفور والبحر الأحمر وكردفان، وارتفاع التضخم وزيادة تكاليف الإنتاج خصوصا الأسمدة والبذور والمبيدات. وتقدر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «الفاو» أن أزمة الغذاء تزداد حدة بسبب تراجع الإنتاج الزراعي بما يعرض أكثر من 15 مليون مواطن سوداني للجوع بدرجات متفاوتة. وذكرت في تقرير أخير في الشهر الماضي أن إجمالي محصول الحبوب الغذائية المتوقع للعام الحالي سيقل بنسبة 35 في المئة عن العام الماضي، وبنسبة 30 في المئة عن المتوسط السنوي للمحاصيل في السنوات الخمس الأخيرة. وتقدر «الفاو» كمية الانخفاض بحوالي 4.3 مليون طن منها 2.8 مليون طن من القمح. وهذا يعني أن التفاؤل بالمحصول الجديد الذي بدأ حصاده بالفعل لن يستمر طويلا. ففي العاصمة الخرطوم، زاد سعر رغيف الخبز الصغير من جنيهين سودانيين قبل عامين إلى حوالي 50 جنيها في الأيام الأخيرة، مع أن حجمه آخذ في التناقص.
لكن توقعات زيادة المعروض الموسمي من القمح المحلي مع بدء موسم الحصاد يبشر باحتمال انخفاض أسعار الخبز مؤقتا، حسب توقعات رابطة أصحاب المخابز. وقد انخفضت فعلا أسعار الدقيق في الأيام الأخيرة ليصل سعر الجوال زنة 50 كيلو إلى 26 ألف جنيه بدلاً عن 30 ألفا، وهو ما قد يؤدي لانخفاض أسعار الخبز. غير أن عوامل أخرى غير الدقيق تسهم في تحديد السعر يجب أخذها في الحسبان، مثل الزيادة في أسعار الغاز، الكهرباء، الكازولين، المياه، الجبايات والعمالة. وفي كل الأحوال فإن القمح المحلي لا يسهم بنسبة كبيرة في تغطية الاستهلاك المحلي. وتشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن حوالي 87 في المئة من القمح الذي يستورده السودان يأتي من روسيا وأوكرانيا، مما يجعله من أكثر دول العالم العربي تأثرا بالحرب في أوكرانيا.
وتتمثل أهم محركات أزمة الغذاء الراهنة في فشل السياسات الاقتصادية المتبعة، وتخبطها، وانعدام الخبرة في التخطيط والإدارة، خصوصا وأن إلغاء الدعم وتخفيض سعر العملة المحلية وانخفاض المحصول يترافق مع ارتفاع تكاليف الإنتاج. وتقدر منظمة «الفاو» أن تكلفة سلة الغذاء اليومي للفرد العادي في السودان قفزت بنسبة 120 في المئة.

تراجع المساعدات الدولية

وبسبب عدم الثقة في النظام السياسي القائم، وانتشار الفساد داخل الأجهزة التي تتدخل في توزيع مساعدات الإغاثة الإنسانية التي تقوم بها الأمم المتحدة، فإن قيمة المساعدات المنفذة فعلا لا تغطي إلا جزءا ضئيلا من الاحتياجات الفعلية. وذكر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للإغاثة الإنسانية في السودان أن إجمالي ما تلقاه من تمويل خلال أول شهرين من العام الحالي بلغ 255.4 مليون دولار فقط وهو ما يمثل نسبة ضئيلة جدا من المساعدات المطلوبة. ففي شهر شباط/فبراير على سبيل المثال بلغت قيمة المخصصات الفعلية 148.6 مليون دولار بنسبة 7.7 في المئة من المبالغ المطلوبة. وتقدر احتياجات توفير الأمن الغذائي للمتضررين بنحو 708 ملايين دولار تم توفير 141 مليون دولار منها بنسبة 19.9 في المئة فقط، في حين وصلت اعتمادات تغطية بنود أخرى مثل إعاشة اللاجئين والرعاية الصحية والتعليم إلى الصفر.

تعثر سياسات الإصلاح

يتولى نائب رئيس مجلس السيادة العسكري السوداني محمد حمدان دوقلو «حميدتي» مسؤولية إدارة الشؤون الاقتصادية في البلاد والإشراف على تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي كان قد تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد والبنك الدولي في منتصف عام 2020. وهذا الدور الذي يتولاه حميدتي يعتبر أهم الأسباب وراء تخبط البرنامج وتعثره، وانتشار الفساد في كل أركان الإدارة الاقتصادية تقريبا. وتضمنت الإجراءات التي تم اتخاذها ضمن هذا البرنامج تخفيض سعر العملة المحلية تخفيضا حادا، وهو ما يسهم في تغذية معدل التضخم. وقال الجهاز المركزي للإحصاء في السودان في بيان رسمي إن معدل التضخم السنوي في البلاد ارتفع إلى 263.16 في المئة في الشهر الماضي من 258.40 في المئة في شباط/فبراير.
وقد حدد بنك الخرطوم سعر الصرف في الشهر الماضي بقيمة 530 جنيها سودانيا للدولار، بانخفاض 19 في المئة عن الشهر السابق. وجاء التغيير بعد أن قالت الحكومة إنها بصدد توحيد أسعار الصرف الرسمية وأسعار السوق السوداء. لكن الجنيه يواصل الهبوط في الشهر الحالي، وتراجع في الأيام الأخيرة إلى 580 جنيها مقابل الدولار. وقد أدى تخفيض الدعم وسعر العملة ورفع أسعار الوقود بدون اتخاذ إجراءات كافية للحماية الاجتماعية إلى ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة، وانتشار الفقر ليشمل ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان.
ولا يزال يتعين على السودان تنفيذ المزيد من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية للوصول إلى «نقطة التمام» حتى يستفيد من مبادرة تخفيض الديون للدول الفقيرة الثقيلة المديونية المستمرة حتى عام 2024 ويأمل بعدها السودان في التخلص من نحو 90 في المئة من ديونه التي بلغت قيمتها 56 مليار دولار (163 في المئة من الناتج المحلي) في نهاية عام 2020 وكان من المتوقع في حال نجاح برنامج الإصلاح والغعفاء من الديون أن تهبط إلى 6 مليارات دولار فقط (14 في المئة من الناتج) في عام 2024 بشرط الالتزام ببرنامج الإصلاحات وسداد فوائد الديون القائمة. وقد لجأت سلطات الحكم العسكري بعد انقلاب تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى زيادة الضرائب والرسوم المحلية من أجل تعويض الانخفاض في برامج المساعدات الخارجية. لكن التطورات السلبية في السياسات النقدية على المستوى العالمي تثير شكوكا قوية حول قدرة الدول الفقيرة على سداد ديونها حسب تقديرات البنك الدولي.

لجنة الطوارئ الاقتصادية

ابتكر محمد حمدان دوقلو «حميدتي» هيكلا إداريا غريبا للتعامل مع الأزمة الاقتصادية تحت مسمى «لجنة الطوارئ الاقتصادية» تحت رئاسته. وفي الاجتماع الأخير لهذه اللجنة، قرر تشكيل 11 لجنة فرعية منبثقة عنها، تختص بمجالات الإنتاج والطاقة والتعدين، بما في ذلك الذهب، والصادرات والواردات، والإصلاح الضريبي والجمركي، والشركات والهيئات الحكومية، ولجان أخرى تختص بالعمل على استقرار سعر الصرف، وتخفيض التضخم، وتعزيز الخدمات الأساسية مثل الصحة والمياه والتعليم، إضافة إلى لجنة أخرى أكد حميدتي على أهميتها تسمى «لجنة تنفيذ الشراكة بين القطاعين العام والخاص». ويبدو أن قطاع الإعلام لم يفلت من قبضة حميدتي أيضا فقرر إنشاء لجنة فرعية ضمن لجنة الطوارئ الاقتصادية تسمى «لجنة قضايا الإعلام» تختص بإعادة تنظيم القطاع الإعلامي من الناحية الاقتصادية. وتفتقر لجنة الطوارئ واللجان المتفرعة منها لأي رؤية تتعلق بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، وهي تركز فقط على السبل الكفيلة بزيادة إيرادات الدولة لتعويض الانخفاض في المساعدات الدولية وإرضاء جشع جماعات المصالح الخاصة.

المأزق الحالي

يتضح من العرض السابق أن السودان يواجه أزمة معقدة على عدة مستويات؛ فعلى المستوى الخارجي تعاني السلطة العسكرية الحاكمة من انعدام الثقة عالميا، ولا تسندها إلا بعض المعونات العربية، إلى جانب دعم إسرائيلي في المنظمات الدولية لتخفيف الضغوط عليها. وعلى المستوى المحلي تفتقد السلطة العسكرية إلى أساس مقبول للشرعية، وتستمد قوتها فقط من القدرة على الاستبداد واستخدام العنف المعنوي والمادي ضد الإرادة الشعبية التي تعبر كل يوم عن رفضها للحكم العسكري منذ انقلاب تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي حتى الآن. أما على مستوى تركيب السلطة العسكرية نفسها فانها تعاني من عدم الكفاءة، والتخبط، وسيطرة المصالح الخاصة على عملية اتخاذ القرارات؛ فالقرارات لا تستجيب للمصلحة العامة بقدر ما تحقق مصالح العسكريين الذين تتبلور مصالحهم بالتوافق مع جماعات محدودة من التجار والمهربين. أما على الصعيد الاقتصادي فإنه من المستبعد أن يواصل البنك الدولي وصندوق النقد برامج المساعدة والإعفاء من الديون، ما لم تتشكل حكومة مدنية مسؤولة مسؤولية كاملة تلتزم بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي بما فيه من إجراءات للحماية للاجتماعية، واجتثاث الفساد، وتعميم الشفافية، وتعزيز الخدمات الأساسية اللازمة لتطوير المهارات البشرية، خصوصا في مجالات التعليم والصحة والإسكان ومحاربة الفقر. ويمتد موقف البنك والصندوق إلى برامج المساعدات الإنسانية العاجلة التي هبطت هبوطا حادا خلال الأسابيع الأخيرة على الرغم من أزمة النقص في إمدادات الغذاء، ذات الأبعاد المحلية والخارجية. وليس هناك مفتاح لحل الأزمة الاقتصادية، وعلى رأسها أزمات الغذاء والطاقة والخدمات الأساسية، بدون التوصل إلى حلول سياسية على المستوى الوطني. مفتاح حل الأزمة الاقتصادية موجود في صندوق السياسة، ومن العبث افتراض إمكان حلها بوسائل أخرى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية