السياسة الدولية… توازن وموازين

توازن، موازين. مصطلحان يمكن اعتبارهما ركيزتي السياسة الدولية، بل السياسة…بل الحياة أصلا. وهنا تبدأ المشاكل. تبدأ المشاكل لأن التوازنات القائمة على الحسابات تعيدنا في نهاية المطاف ، أيا كانت، إلى سيناريو من سيناريوهات توازن الرعب، كما كان يقال أيام الحرب الباردة.
نعم، انتهت الحرب الباردة، لكن أكثر ما كنا نتوق إلى رؤيته تبخر في لمحة بصر : توازن بدون رعب.
بقي الرعب. وفي أكثر الأوقات اختفى التوازن فنشهد في الغالب… رعبا بدون توازن.
طبعا، الترجمة الحالية لتوازن الرعب تجدها أساسا في علاقات طهران بواشنطن، المتمثلة في «لعبة» إن تمسّني أمسّك – لكن في حدود(أنظر كيف ابلغت إيران أمريكا مقدما بقصفها لقاعدتي عين الأسد وكيوان) بينما تسعى أوروبا، والسعي فاشل، لإعادة بث روح الاتفاق النووي لسنة 2015 بغية إقامة توازنات يعاد رسمها وفق منطق عالم متعدد الأقطاب.
وآخر إخلال بالموازين في الملف الإيراني، طبعا، من إبداع ترامب، عند تغريده باللغتين الانكليزية و…الفارسية دعمه لحراك الشارع الإيراني ومظاهراته على أثر اسقاط طائرة أوكرانية عن طريق الخطأ بصاروخ من الدفاع الجوي الإيراني (وهوما لم تستطع الدفاعات الجوية الأمريكية الى اعتراضه سبيلا لغياب صواريخ باتريوت في المتناول…). لكن الاعتقاد بأن مجرد «التغريد» ضمان للانتقال الى «التفويض»…أي، لنكن واضحين – تفويض من الشعب الإيراني لأمريكا بقلب النظام في إيران، تفكير مبني على مغالطات سيؤوّله ذات الشعب حتما في اتجاه محاولة خارجية للاصطياد في الماء العكر – إن جاز لنا استعمال هذه العبارة – وليس دعما لتثبيت المسلسل الديمقراطي بأي حال من الأحوال.
بعد محاولات التوازن الفاشلة، هل من بارقة أمل لتوازنات أخرى اكثر نجاحا؟
لا يمكن فصل «التوازنات» عن «موازين» القوى. مبدأ يصح في العلاقات الدولية كما يصح، بل يفرض نفسه، عندما يتعلق الأمر بضمان سلامة المؤسسات الدستورية و…توازن السلطات.

عالمنا بحاجة إلى عقلية موازين وموازنات أكثر من أي وقت مضى. فهي أولا مبدأ كل تفكير موضوعي يغلّب المصلحة العامة على باقي المصالح، وهي ثانيا مسلك شخصي يوجه طريقة التقدير والتقييم…وتنتهي عقلية الموازين والموازنات بالمطاف الفكري إلى الاختيار الموفق لمعايير الجودة

وقد حمل هذا الأسبوع إلينا مشهدا عكس، من جهة، صعوبة المخاض عندما يتعلق الأمر بتثبيت الآلية الدستورية لديمقراطية ناشئة مثل تونس ، ولكنه عكس من جهة أخرى، وفي الوقت ذاته، صحة مؤسسات برلمانية انبرت في وجه حكومة اعتبرتها تابعة لشبه عودة هيمنة الحزب الواحد على حساب…إذن…التوازن…
وأتحدث هنا من زاوية تنظيرية لا تقييمية ، كما يمكن أن يفعل من ليس من أبناء البلد فأقول : إن خبر ظهور خمس كتل معارضة في برلمان كان يتبع قبل ثورته لنظام الحزب الواحد…وظل بشكل شبه فعلي يتبع له أيضا بعدها، خبر يجسد فعلا أن الشعب تحرر من منطق «النظام يريد إسقاط الشعب»…
أما المشهد الثالث فمشهد من منطقة ابن البلد، فرنسا…التي لم تُستثنَ هذا الأسبوع هي الأخرى من حكاية الوزن والموازين…عندما أعلن رئيس الوزراء الفرنسي تعليقه تطبيق «السن الموازن» أي السن الذي يضمن، وفق منظومة اصلاح المعاشات في طور المصادقة بفرنسا، مغادرة تضمن استفادة كاملة من اعتمادات الدولة المخصصة للمتقاعدين. هنا أيضا، كانت مسألة التوازنات حاضرة على أكثر من صعيد، توازنات رفضت النقابات أن يطالها تغيير في نقطة ارتكازها (هنا سن المغادرة)، توازنات صرحت الحكومة من جهتها أنها مفروضة ديموغرافيا، توازنات، ردّ وردّد الشركاء الاجتماعيون، أنها مضمونة اذا ما اعتمدت الحكومة من جهة على فائض المديونية العامة التي انتهت من تسديدها، ومن جهة أخرى، على صندوق احتياط الدولة الفرنسية الخاص بالمعاشات.
اجل. عالمنا بحاجة الى عقلية موازين وموازنات أكثر من أي وقت مضى. فهي أولا مبدأ كل تفكير موضوعي يغلّب المصلحة العامة على باقي المصالح، وهي ثانيا مسلك شخصي يوجه طريقة التقدير والتقييم…وتنتهي عقلية الموازين والموازنات بالمطاف الفكري إلى الاختيار الموفق لمعايير الجودة…اللازم اعتمادها في كل تصرف ناجح.
اختيار معايير الجودة عن طريق الموازنة…ألا يذكرنا الأمر بمجال يبدو بعيدا بعدا شاسعا عن السياسة، وهومجال الأدب، الذي عمدت دوائرها في فترة من الفترات الى إقامة الموازنة معيارا أصيلا وأصليا لاختيار معايير الجودة ؟ ألا نتذكر الموازنة في شعر أبي تمام والبحتري وقد كانت ديدنا أيضا على الكثير من غيرهما؟
كما ليس صدفة أن اختارت المغرب «موازين» عنوانا لواحدة من أرقى مهرجاناتها الموسيقية. فأي موسيقى تطربنا تنم عن حسن احترام الملحن لمعايير الجودة وهوما لا يتأتى دون أن يكون إنشادها موزونا.
قد يبدو الأمر بعيدا بعدا شاسعا عن السياسة…لكن لا توجد سياسة ناجحة دون انفتاح للعقول واتساع للمدارك ، ولا يوجد انفتاح للعقول واتساع للمدارك دون اكتساب القدرة على تبيّن معايير الجودة، وأي تبيّن لمعايير الجودة يمرّ أصلا عبر الثقافة.

باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية