بما أنَّ السيرة الذاتية هي حكْيٌ لأحداث حدثت لأشخاص لهم وجود في الواقع، أو قد لا يوجدون أصلا، وإذّاك يمكن أن نتحدث عن التخييل الذاتي. وفي هذا المعنى، فإنّنا نكون بصدد معيارين جوهريّين: تطابق المؤلف والسارد والشخصية، أو القيام بالحكي كتخييل.
«سَيْرنة» الهويّة
بخصوص المعيار الأول، فهو معيار الهُويَّـة: مصطلح متعدد المعاني، بحيث يشير إلى اسم المؤلف الحاضر في النص، بل كذلك إلى علاقة التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية. فاستعمال اسم العلم من قبل المؤلف لا يسمح بتحديد هوية حضوره في النص حسب، بل بالتفكير في اكتشاف هُويَّته. فمسألة توظيف اسم العلم هي حاسمة، وحضوره الأساسي يجعل من تعيين النوع أمرا ثانويّا. وفي النتيجة، إذا كان المؤلف يتفكّه مع اسمه، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القارئ. وكما قال لوجون: «في إنجاز الكتابة، يقيم السارد نمطين من المسافة: فهو يقف في مواجهة ماضيه وفي مواجهة كتابته على حدٍّ سواء». يفترض هذا الموقف – نصّيا- المقابلة بين صورتين: صورة السارد (الراشد) الذي يُواجه نظرة الشخصية (الطفل)، من خلال صيغتين رئيسيتين: تحديد الهوية أو الابتعاد. يشير تحديد الهويّة إلى استمرار «جسر» عاطفي بين الطفولة وسنِّ الرشد، الجسر الذي يسمح للسارد، رغم المسافة الزمنية، بأن يستردَّ الحياة بالكثافة نفسها، والمشاعر التي لا زال يُحسّ بها. أما الصدق الذي يستتبعه الميثاق، فإنّه يجعل أيَّ سمة بلاغية مفرطة أمرا مشتبها فيه: يبحث سارد السيرة الذاتية في الغالب عن خلق انطباع بما هو «طبيعي»، وبغياب بناء الحكي الذي تواصله تعرُّجات الذاكرة بغير مزيد من القيود عليها: هكذا ستكون الطبيعة التي لا يمكن التنبؤ بها للذاكرة هي العلامة الرئيسية للكتابة السيرذاتية.
في السيرة الذاتية، ثمة تباين بين الأنا المروي والأنا الراوي. هذا التمييز هو بديهيٌّ بالنسبة إلى التخييل الذاتي الذي يذهب أبعد من ذلك: ألا يكون امتياز التخييل الذاتي حقيقة بالتساؤل عن علاقة التطابق (=) أو علاقة الغيرية (#) بين المؤلف والسارد أيّا يكن الاسم هو نفسه؟ ففي العبور من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي، تُطرح إشكالات نظرية، وفي مقدِّمتها: الهوية. لن تعود الهُويّة (التطابق) مُعْطى ثابتا، بل سوف تصبح سيرورة ضدّية تنجم عنها هُويّات متعددة. ففيما تبحث السيرة الذاتية بشكل استرجاعي عن هوية موحدة، يخترع مؤلف التخييل الذاتي ذوات ممكنة: يتوجّه كاتب السيرة الذاتية، وهو يبحث عن وضوح الهوية الدائمة، نحو ماضيه ويربطه بالأحداث، وقد يعيد خلقه عند الاقتضاء. أما مؤلف التخييل الذاتي فهو يجرب أكثر من حاضر وأكثر من مستقبل ممكن. يعيد الأول قراءة ذاته، فيما الثاني يبتكرها. ورُبّما تَوجّه التخييل الذاتي نحو الماضي أكثر منه إلى المستقبل. وترتيبا عليه، تُبَنْين الضرورة الحكي السيرذاتي، ويطبع جواز الحاضر واحتماله اليوميات الحميمية والمراسلات، وحتى التخييل الذاتي نفسه، كما يرى دوبروفسكي: «ما يُميّز السيرة الذاتية أساسا، من خلال معارضتها بالتخييل الذاتي، هو أنّ الأمر يتعلق بنوع يُكتب دائما في الماضي. فالإنسان يحاول في نهاية حياته أن يستعيد، أو يفهم، أو يتّصل، أو يُطوّر الكلّية حتى لحظة الكتابة، بينما أحد مظاهر التخييل الذاتي أنّه يحيا في الحاضر». الذات الحاضرة، وليست ذات الكاتب التي تكتب السيرة الذاتية؛ لأنّها تحضر بوصفها نصّا مكتوبا في السيرة وعبرها، في «نقطة التقاطع بين التذكُّر والتخيُّل» حسب تعبير ج. هيو سلفرمان.
يتوجّه كاتب السيرة الذاتية، وهو يبحث عن وضوح الهوية الدائمة، نحو ماضيه ويربطه بالأحداث، وقد يعيد خلقه عند الاقتضاء. أما مؤلف التخييل الذاتي فهو يجرب أكثر من حاضر وأكثر من مستقبل ممكن.
يتساءل أغلب الباحثين في الهوية عن علاقتها بالزمن، الماضي والحاضر تحديدا. ومنهم من أقدم على مقاربة الأنواع من خلال مفهوم الهوية بما أنّها مقاربة مهمّة، وذلك لأنّنا في الغالب لا نتكلم – أو يكاد- عن الحقيقة في صلب النقاشات الدائرة بخصوص السيرة الذاتية أو التخييل الذاتي.
في هذا السياق، يسمح لنا عمل عالم الاجتماع جان- كلود كوفمان المعنون بـ«ابتكار الذات، نظرية الهوية»، بإضاءة بعض مشكلات هذا العبور من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي. فأهمّ فكرة يُركّز عليها كوفمان، أنَّ الهوية ليست كيانا، بل سيرورة – بَلْه سيرورة ضدّية، مستعيدا مفهوم «الهوية السردية» الذي أدمجه بول ريكور في كتابه «الذات نفسها كآخر». يقول «إنَّ الهوية لم تعرف المجد إلا لأنّها صارت متغيرة»، و«إنَّ سؤال الهوية قد نتج تاريخيّا عن تفكك المجتمعات، مُحرّرا الفرد الملتزم بتعريف نفسه ذاتيّا». وحسب رأيه، فإنّ الشعور بالهوية الفردية أخذ ينمو في القرن التاسع عشر، فيما كان توظيف مصطلح «هوية» يبتذل في بداية القرن العشرين، ولم يحدث التطور إلا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن وجد الأفراد أنفسهم مطالبين بتعريف معنى حياتهم في مرحلة تميّزت بالدينامية التي من أبرز وجوهها: «التحرير النفسي وانعدام الأمن الهويّاتي».
يرى كوفمان أن الهوية مثل حكي سيرذاتي «هي دائما نمذجة تبسيطية». ومحكي الحياة يمحو «الترددات وانعدام الاتساقات، جاعلا صندوق المخلّفات في تناقض أدنى، لأنّه بحقٍّ تلك الأداة التي تسمح بتوحيد الحياة الملموسة المتعددة، غير المتجانسة والمتفجرة». فكاتب السيرة الذاتية يعلن عن نفسه في ما يسميه كوفمان محكي المحكيات، إذ يعود إلى ماضيه، ويحرِّر بشكل استرجاعي ما به يتمُّ المعنى ويخلق الانسجام الذي لا يتضمنه الحاضر. إنّه يرفع الحجاب عن روايته لحياته بدون أن ينخدع بالحقيقة. في المقابل، ينكتب التخييل الذاتي في الحاضر.
بعبارة أخرى ممكنة، تلتصق السيرة الذاتية بالهوية السردية، بينما التخييل الذاتي يعنى بالهوية المباشرة. يقول كوفمان: «تستعمل الذات Ego، بين الهوية السيرية والهوية المباشرة، صيغتين هُوياتيّتين تتعارضان نسبيّا في منطق اشتغالهما بين حكي عدد كبير من المحكيّات يكون منسجما تمام الانسجام، والصور المفاجئة للذات الأكثر سخفا والبعيدة عن الاحتمال، تمتدُّ بالفعل شبكة من الصيغ الأكثر تعقيدا وتنوُّعا، تجمع بطريقتها بين الاستمرارية والقطيعة، تندرج الذات حقيقة في أكثر من منطقٍ للحياة تعاقبيٍّ وتعدُّديٍّ، وهي تتحرك في ظلِّ التاريخ الوحيد المفترض».
بهذا المعنى، فإنّ كاتب السيرة الذاتية الذي يتوجه نحو ماضيه، يدرك الهويّةَ كموضوع مفقود ينبغي العثور عليه ثانية، فتسعى كتابته السيرذاتية إلى «بناء هوية نصّية موازية (معادل لغوي وذهني..) لتجربة الحياة الفردية في الوجود، ولا تنتج من خلال لغة الكتابة إلا ما يضفي عليها أشدّ معاني الاعتبار رفعة». وهذا ما معنى «أن يكون انشغال الهوية يتوجَّه في حقيقة الأمر نحو ابتكار الذات جوهريّا». ولا معنى لهذا الابتكار في غياب الآخر.
يلجأ كاتب السيرة شعرا أو نثرا إلى استثمار معطياته نصيّا داخل النسيج السردي لهوية الأنا، وهويّة الكتابة، بما فيها من تهويمات وإسقاطات وأحلام يقظة، وغير ذلك مما يُشكّل العوالم الرمزية والممكنة لأفعالنا وعقولنا ومُخيّلاتنا.
الغيرية أو الذات بوصفها آخر
يمكن اعتبار الفرق بين السيرة الذاتية والسيرة كالفرق الجاري بين الهوية والغيرية: تبحث الأولى وحدة الذات، بينما تبني الثانية غرابة الآخر. وفي التصوُّر الحديث، فإن الهوية والغيرية لا تتعارضان كما يوحي بذلك الظاهر؛ فالمغامرة السيرذاتية لا تتحقق إلا بانعطافة البحث عن الغير Autrui: أي بالبحث عن الهوية من خلال الغيرية، أو من خلال الجهود التي تبذل للتماهي مع الآخر. إنَّ إشكالية الهوية/ الغيرية لا يمكن أن تُرسم بشكل أفضل إلا عبر العلاقة الدقيقة والمعقدة كمثال العلاقة بين الأب/ الطفل. يُومَأ إلى هذه الهوية بصور الأب والطفل، التي تتشابه بشكل مدهش، حسب لعبة الغيرية التي تجري في مستويات شتّى. حتى الأنا الذي يُعتقد أنه تمَّ العثور عليه، ليس وحدة مماثلة بسيطة؛ إنّه يكون قد تعدّد واستحال إلى آخَر غيره.
وإذ يُقارن الفعل السيرذاتي بالنرجسية في الغالب، فليس لأنّهما سيرورتان تتعرّضان لخطر التشظي في الرؤية فحسب، بل كذلك لأنّ هناك تشابُها أكثر عمقا: نرجس ينظر إلى نفسه، ليس في المرآة الجامدة، ولكن في الماء الذي يتدفق. من هنا مزيّة «الهروب»، الجريان، اللااستقرار، التقلُّب، الخيانة بحدّ ذاتها، كما يشير إلى ذلك جيرار جينيه: « يتأكد الأنا، لكن تحت أنواع الآخر: الصورة المرآوية هي رمزٌ تامٌّ للاغتراب». وبالمثل، يبذل بطل السيرة الذاتية جهده ليرى نفسه عن طريق العد التنازلي لهذا الوسط غير المحدد أو الظاهر للعيان الذي يبسط، بما لا انعكاس له، الموجودات في تغيُّرها، والأحداث والظواهر في تتابعها، كما الماء الذي يتدفّق وينساب باستمرار: هكذا ينضمُّ إلى سوابق المرض تيهُ الخيال، الحلم، اللاوعي والذكريات.
إنّ الإنسان الذي يتذكّر يجد نفسه في مكان غامض، معتم وغير ثابت. مكان العبور والحداد، ومكان الحوافّ حيث لا شيء مؤكد. فالكلّ مُشوّشٌ عليه بهذه الحالة التي يتقاسمها الوعي والهذيان. فضلا عن ذلك، يجب إثبات هذا اللايقين وعدم البحث للإمساك بالحقيقة: هل من المؤكد أن هذه الطفولة التي تُستثار تكون هي نفسها فعلا؟ ألا يمكن أن تكون هي نفسها طفولة الآخر؟
هنا، تكشف العودة إلى الذات والتطابق معها عن كونهما محض وهم ومشكوكٌ فيهما، كما تؤكد ذلك العبارة الشهيرة لآرثر رامبو «أنا هو الآخر»، أو تلك التي طوّرها جيرار جينيه: «أنا هو الماء الذي يتدفّق». فالفعل السيرذاتي نفسه هو، إذن، فعل غيريّة. وحسب بول ريكور، فإن غيريّة الذات هي مرحلة ضرورية ولا يمكن تجاهلها لفهم الذات وإدراكها: «الذات عينها كآخر يوحي منذ البداية بأنّ ذاتية الذات عينها تحتوي ضمنا الغيرية إلى درجة حميمة، حتى إنّه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى».
الحقيقي والخيالي
إذا كانت السيرة الذاتية – كما تواضع على ذلك دارسوها- تقترح رؤية منسجمة لماضيها، فإنَّ التخييل يتوجه نحو اختراع صور الذات الممكنة واختبارها. في كلتا الحالتين، بالنسبة إلى المؤلف كما للقارئ، يصير النص الذي يقترح هُويّات مفترضة بمثابة الفضاء الحقيقي للبناء الهُويَّـاتي: القراءة كما الكتابة تنتميان إلى الحياة الحقيقية، والموضوع الأساسي بالنسبة لبعضهما الآخر ليس الحقيقة، وإنّما المعنى. فالبناء السردي للهوية ليس له بعد نفسي وخلقي وآخر اجتماعي، بل كذلك تخييلي؛ فلا يُعنى بما تمّ عيشه ومعاناته حسب، وإنما ما تبقّى ـ وما أكثره – ضمن المنسيّ والمكبوت والمحلوم به الذي لم يتحقق لعوامل مفترضة، فيلجأ كاتب السيرة شعرا أو نثرا إلى استثمار معطياته نصيّا داخل النسيج السردي لهوية الأنا، وهويّة الكتابة، بما فيها من تهويمات وإسقاطات وأحلام يقظة، وغير ذلك مما يُشكّل العوالم الرمزية والممكنة لأفعالنا وعقولنا ومُخيّلاتنا.
ويتجاوب هذا النزوع التخييلي للسيرة الذاتية مع بنى هويّتها السردية التي تسعى على الدوام إلى شكل ما من التكامل السردي الذي يعطي لمفاهيم الحياة المعيشية وأحداثها معانيَ لم تكن تمتلكها وقت حدوثها، وتعطي لطريقة سردها طابعا أكثر اتساقا وانسجاما، حتى وإن كانت في جزء كبير منها متشذّرة ومُفكّكة. إنّ سرد السيرة يبتكر أكثر من كونه يصف.
يقول: «في لحظات التذكُّر ـ الذي يحدث في الحاضر- يُسْتدعى واقع «أحدث الماضي»، بثراء وعمق، وكان من المستحيل معرفتها وتقييمها حين مرّتْ بنا «أَصْلا»». من هنا، فقد انْتُقدت السيرة الذاتية بزعمها أنّها تحكي الحقيقة التي من المستحيل بلوغها، ونُظِر إلى التخييل، والتخييل الذاتي تحديدا، بأنه «حقيقي أكثر» بحكم طابعه التخييلي. وقد تَرتَّب على هذا الواقع المفترض، أَنْ صار التخييل الذاتي يُستعمل للدلالة على الخطاب المتداعي بين السيرة الذاتية والعمل التخييلي، وهو خطاب يتوسّع باستمرار بين قطبين: بين سيرةٍ ذاتيّةٍ لا تريد التصريح باسمها، وتخييلٍ لا يريد أن يتحرّر من مُؤلِّفِه، وهو ما تغنمه مجموع الأخلاط الممكنة التي تقع بين علامات السيرة الذاتية وممارسات الخطاب التخييلي، إلى حدّ أن يثير خلطا نظريّا لدى الدارسين. إنّ الكتابة السيرذاتية تخصُّ جميع محكيّات الحياة، ويمكن أن تتعلّق بحياة شخص واقعي (مؤلّف مثلا)، أو بحياة شخصية خيالية، وأصبح ممكنا في هذا المنظور أن نتحدّث عن الأنا الذي يكتب ليس بصفته الأنا الذي يقدّم نفسه للوجود، وبالتالي يحتجب أيُّ اختلاف بين الذي يكتب والذات التي تتمظهر في الكتابة، حسب جهدها الإبداعي وقدرتها على الإقناع. تحضر الكتابة، في هذا المقام، بوصفها وسيطا تخييليّا لتحقيق المفارقة بين ذات «المرجع الواقعي» وذات «الموضوع المحكي»؛ أي بين ذات المؤلِّف كما هي في الواقع وذاته المتأملة في التخييل، فتتخـــــلّى الذات عن مرجعيــــتها الواقعية، وعن وضعها المرجعــــي إلى حدّ أن يصبح المرجع نفسه إشكاليّة داخل النص، حــــين تتجاوزه الذات، وكأنّ أنا المؤلّف يريد أن يثبت أن حـــياته شيئا آخر غير الذي عاشه، وذلك بِمجرّد أن ينقل محكـــيَّه إلى فضاء الكتابة.
٭ شاعر مغربي