في نهاية رواية الروائي والأكاديمي التونسي شكري المبخوت «السيرة العطرة للزعيم»، يختفي بطل الرواية الزعيم «العيفة بن عبد الله»، ليدفع المبخوت قارئه إلى عيش متعة تحليل لماذا وأين اختفى، وشغفِ متابعة مصير هذا الاختفاء. غير أن المبخوت يدهش قارئه بإيقاف شغفه، وختم روايته بتذييل السخرية مما سيحصل عام 2035، كما يحصل عادةً في تزييف الواقع والتاريخ، فيعرض في التذييل ترجمة لحياة الزعيم، كتبها «باحث جهبذ وسجين سابق، حصل على تعويض عن سنوات نضاله»، تغاير عرض ظهورها وصناعتها كزعيم، وتطورها وتكوّنها على صورتها الحقيقية؛ كما فعل راويه في سرد الرواية.
ولا يبتعد المبخوت في هذا التوقّع عما حصل في الماضي، ويحصل في الحاضر، بجميع البلدان التي تعيش ظروف الاستبداد وضياع الحقائق، ففي سوريا حافظ الأسد القريبة من تونس بن علي، وبزمن يقارب زمن توقع المبخوت، يشابه التذييلُ الساخر لــ»ترجمة الزعيم» ما وضعه يساريون سوريون موسوسون بالقيادة، من «سيرةٍ عطرةٍ» لأنفسهم ولبعضهم بأنهم كانوا «قيادة النضال السري». هذا عندما ظلوا طليقين بعلم المخابرات خلال اعتقال قيادة حزبهم في ثمانينات القرن الماضي، ليعطلوا حركته ونموه بحماقاتهم المرصودة، وأنهم كانوا يتحركون أشباحاً بعباءاتِ إخفاءٍ تعجز المخابرات عن رؤيتها وكشف حركة نضالهم ضد الديكتاتورية؛ وذلك في سخريةٍ من المبخوت على ما يُصدّر البشر من أكاذيب وأوهام تتلقاها وتردّدها عقول تتشبث بالأوهام دون تساؤل عن الحقيقة، لتبرّر عجزها، بتصديق الأوهام وترديدها.
في الاختفاء الحقيقي العميق لبطله، برداء تزييف شخصيته، يُدهِش المبخوت قارئه كذلك في تغيير توقّعاته حول الزعيم، الذي ترسمه الروايات في العادة شخصية التي تقف في قمّة هرم السلطة: الرئيس، الديكتاتور، القائد. فيرسمه حصراً بالجامعة واتحاد الطلبة، ويدير جميع الأحداث المرتبطة به تقريباً في هذا الحيّز، مع إبعاده عنه في ثلاثة أماكن من تونس، هي دار البغاء، المكتبة، البار، التي يصل فيها إلى تأزّم مآلاته وحلّها؛ مع عرض مكان تكوّنه الجبلي القاحل في طفولته ومراهقته، كتذكّرٍ يدفعه إليه واقعه.
غير أن هذا الحصر الظاهر للمكان أيضاً لا يُخفي كونه ممثلاً لجميع أمكنة صناعة شخصية الزعيم، بتعدد أشكالها ومراتبها. وذلك بما يلتقطه المبخوت بعين صقر، من حبوبٍ تختفي خلف زوان العادي المحدود، لتكون التماثل مع كل مكان تُصنع بمزاياه وبشخصياته شخصيةُ زعيمٍ أو قائد أو ديكتاتور.
فمن ناحية تعدد الأمكنة التي تتخلّق فيها هذه الشخصية، لا يخطئ القارئ في أي مكان إيجادها فيما حوله، سواء في إدارات المؤسسات التي تنتج مدراء زعماء، أو في مؤسسات الجيش المرتبطة التي تنتج زعماء البلاد وتزوّدهم بجميع ما يحتاجون إليه للتحول إلى آلهة. بما في ذلك الانتصارات الوهمية الوطنية القومية كما حدث مع حافظ الأسد في حرب الـ 67، وحرب تشرين، على صعيد القوميين واليساريين، والانتصارات الإلهية كما حدث مع حسن نصر الله في حرب تموز، على صعيد الإسلاميين.
ومن ناحية المكان نفسه لا تكاد تخلو جامعة من مرور شخصية مثل شخصية العيفة بن عبد الله عليها، بمختلف الأشكال المشابهة التي تؤدي إلى مآلاتٍ مشابهة، وهو هنا: شاب فقير بوهيمي كريه الرائحة سواء بفعل قدومه من أوساط لا تهتم بالنظافة أو بفعل أمراض اليسارية وسطحيات الإيديولوجيا حول الثورة والحرية والفتيات البورجوازيات المشتهيات والمحتقرات بذات الوقت من قبله. ويُستغل طالب السنة الثالثة هذا من قبل القوى المتصارعة التي تريد كسب أنصار لها أو إغاظة ومحاربة منافسيها، فتقوم بحرف شخصيته اعتماداً على وضعه الاجتماعي الاقتصادي. كما يُستغل من قبل الأجهزة الإدارية والأمنية التي تراقب الطلاب وترصد أوضاعهم لتوظيف من تراه مهماً لأغراضها، سواء بشكل مباشر أو بالسيطرة على توجّهاته، فتقوم بتسهيل انحرافه اعتماداً على نوازعه ودوافعه المتعلقة بمنبته الاجتماعي وعُقد طفولته ومراهقته، من خلال رجالها المبثوثين في مفاصل المؤسسات والاقتصاد. ويقوم بهذا الدور صاحب مطعم الجامعة «سي جاء لوحدو»، الذي يكتشف طبيعة العيفة، ويدرك ما تمّ من تعديل في صناعته إلى زعيم للطلبة، من قبل رفاق ينتمون لنفس منطقته، بغاية إغاضة رفاقهم الذين طردوهم من تنظيم الفصيل السياسي اليساري الذي ينتمون إليه. ويستغل بالتنسيق مع الجهات الأمنية كما يبدو عُقد الزعيم الجنسية، مثل مشاعر الإثم والقرف من نفسه لرؤية فرْج أمّه مرتين، الأولى وهي فاتحة ساقيها لحلق شعر عانتها بحلاوة السكر من إحدى قريباته، والثانية في مضاجعة أبيه لها من خلف شبك الدكة، وتأثير هذا على سلوكه الجنسي مع بائعة الجنس التي أخذه إليها: «كانت العاهرة أيضاً قد حكت لـ سي جاء وحدو ما وقع. وحين جمع الروايتين اكتملت الصورة عنده فدخلت في لائحة نوادره التي كان يعرف كيف يجمعها ويحفظها ويرتب عرضها لشد الأصفياء والجلاس. فلاشك أنه رواها ولكن خارج الكلّية: حين دخل العيفة عليها جذبها من يديها وألصقها به يريد تقبيلها من فمها فامتنعت. فليس من عادة أمثالها مثل هذه الممهدات. أفهمته بلطف على قدر الجهد والطاقة أنه عليها أن تغسل آلته قبل كل شيء».
في كشفه العميق لطبيعة اختفاء زعيمه، وتعرية سيرته العطرة، يكوّن المبخوت روايته في بنية بسيطة، تتضمن: فاتحةً، يسخر فيها من صناع ومعيدي إنتاج الديكتاتورية الممسوخين بالأدلجة، من القوميين اليساريين والإسلاميين، الذين يعاملون الشعب كقطيع يحتاج إلى راعٍ وحيد، ويصبّون غضبهم على هذا القطيع إن سار وراء راع آخر غير راعيهم. ويُتبع المبخوت فاتحته، باثني عشر فصلاً بعناوين، يقسم كلاً منها إلى أجزاء بأرقام تتراوح بين الخمسة والاثني عشر جزءاً. ويختم بنيته بتذييل تحت عنوان «ترجمة الزعيم عيفة بن عبد الله»، يسخر فيه من مزيفي شخصيته، الذين يحاولون صنع بطل ثوري يساري كان سيكون على يديه تحرير المشرق والمغرب وربما العالم، لو لم يختف.
وتعمّ سخرية المبخوت في فاتحته وتذييله اللغة نفسها كصانع لمسوخ الأدلجة، فيوردهما بلغة عصر الانحطاط الإنشائية الخاوية التي ما تزال باقية في أسلوب الخطابين القومي والديني. إلى جانب لغة الراوي الفصحى البسيطة في السرد، واعتماد العامية التونسية للحوار، مع تجاوز صعوبة فهمها بتكثيف إيحاءاتها.
ولا يتخلّى المبخوت في كشفه شخصية الزعيم ونوازعه البوهيمية التي يستغلها المتلاعبون بشخصيته (مثل قبوله الرشوة وتبرير هذا بأنه حق له من البورجوازية بانتظار تشليحها من كل ما سلبت الفقراء، وتبرير سرقة الكتب كذلك بنفس المنطق)؛ عن تعاطفه الإنساني مع هذه الشخصية، التي تثير الأسى بما أوصلتها إليه ظروف تكوينها. وذلك رغم قسوة التعرية والكشف التي تتناول تربية العيفة الجنسية على مضاجعة الحيوانات كما يحدث لبعض مراهقي الريف، بصورة مبتكرة سُمّيَت طريقة العيفة، وجلافته المتعلقة بتفكيره حول المرأة، كما لا يتعامل المبخوت مع شخصيته بميكانيكية صناعة الشخصية من الأحزاب والمخابرات. فالشخصية الإنسانية أعقد من هذا، ويصعب إخضاعها للقوالب، وذلك بكشف المبخوت عدم انصياع الزعيم لتفكير المتلاعبين به، وسيره باتجاه صناعة ذاته، ورسم مصيره المؤسي الذي لا يخضع في النهاية لما يراد له، بخطبةٍ عصماء يلقيها على لا أحد تحت تأثير السكْر، يشتم فيها «بن علي» والغزو الأمريكي للعراق، ويمجّد صدام حسين. هذا يقود الجهات الأمنية إلى أخذه، واختفائه، ومن ثم تشويه صورته من رفاقه الذين صنعوا زعامته، وتشويه المخابرات لصورته على يد صديقه صاحب المطعم بأنه مجرد أهبل.
وفي تعريته وكشفه العميق كذلك عن طبيعة اختفاء زعيمه التي نجدها في تزييف شخصيته، يفتح المبخوت الباب للقراءة الباحثة في فنيات الرواية أن تتساءل عن اختفاءٍ آخر تقصّد كما يبدو القيام به في منظومة سرده، هو اختفاء راوي الرواية كذلك، بعباءة إخفاءٍ فنية لا يُعرف فيها وإن ظهر بثياب الراوي العارف الوحيد للرواية، ليروي لنا سيرة ظهور وتطور وتكون شخصية المختفي: هل هو كاتب الرواية؟ أم الرفيق المرافق من مجموعته اليسارية التي سارت على منهج خليطٍ سمته منهج الثورة الطبيعية الراديكالية تحت الشعار الخليط: ديكتاتورية العمال والفلاحين والبروليتاريا الرثة والطلبة؟ أم هو عميد الكلية؟ أم ضابط مخابراتٍ عرف وتابع وساهم في صناعة شخصية المختفي كزعيمٍ، طالما أن الراوي لابدّ أن يكون موجوداً في مكان ما، وعلى علاقة بما يحكي، سواء داخل المشهد أو خارجه؟ أم أن الراوي هو كل هؤلاء بإدارة كاتب الرواية شكري المبخوت نفسه، حيث نجد ملامح لكل هؤلاء في سرد الرواية، إمعاناً منه في التماثل، مع ضياع الحقائق، وحث القارئ على التمعّن بما يروى له.
شكري المبخوت: «السيرة العطرة للزعيم»
دار التنوير للطباعة والنشر، تونس 2020
146 صفحة.