السيرة والرواية: من التداخل إلى العبور

ليس غريباً القول إن السرد فن وليس جنساً، فهو أوسع من أنْ يلمه قالب وأرحب من أنْ يحيط به تنويع؛ بل هو كامن في كل شيء في هذه الحياة، لكن للسرد أجناس ومنها الرواية، التي فيها تتداخل أنواع وأشكال، وبما يدلل على مرونة قالبها الذي يؤهلها للتداخل مع غيرها من الفنون والأجناس، بالتناص أو التعالق أو التخالط أو الكولاج. والمهم أن عملية التداخل هذه ليست متروكة على الغارب، منفلتة على الإطلاق، لوجود عملية تالية لها هي العبور الإجناسي، التي بها تغدو الرواية جنساً عابراً، بوصف العبور عملية إمبريقية، فيها يتم أولا التداخل، وثانيا العبور الذي سيترشح منه الجنس العابر الذي سيحتوي في قالبه النوع السردي المعبور عليه. فمثلا إذا كان التداخل بين الدراما والرواية، فإنه سينتج أولا الرواية الدرامية، وثانيا ستكون الرواية هي الجنس العابر كمتحصل إبداعي لعملية العبور، الذي به تحتوي الرواية الرواية الدرامية في داخلها عابرة عليها.
ومثل ذلك يقال مع أجناس أخرى كالقصة القصيرة والقصة الطويلة والرواية القصيرة (النوفيلا)، التي تنضوي جميعها في الرواية التي تعبر عليها جميعا. وبسبب هذه العابرية صار التجريب سمة تُبقي الرواية دائمة التجدد والتصيِّر، وهو ما استثمره مارسيل بروست، وجيمس جويس، وصاموئيل بيكيت، الذين جربوا مضيفين ومنوِّعين في الكتابة الروائية، مستغورين الحياة ومتمثلين حريتها التي لا طريق إليها إلا بالمغامرة والتوتر، والإحساس بالتفرد، والتمرد على الصمت والاختناق. فجعل جيمس جويس مثلا مجموعته «أهل دبلن» تُقرأ كوحدات، وعدها فرانك اكونور أجزاءً من المسودة المبكرة لرواية جويس «صورة الفنان في شبابه» التي تُعرف أيضا ببطل ستيفن.
ومن التداخل ما يكون بين الرواية وفن من الفنون الإبداعية، كالموسيقى مثلا التي تتداخل مع الرواية أولا لتذوب في قالب الرواية أخيرا. فرواية (بحثًا عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست تتألف بحسب جيرار جينيت من تمفصلات سردية بلغ عددها إحدى عشرة وحدة سردية. والوحدة السردية الأخيرة، تتمثل في حفلة كيومانت النهارية ما سماها (الوتيرة الروائية) التي يشبهها بالتقاليد الموسيقية الكلاسيكية، كالسمفونية والسوناتة والكونشيرتو التي تشبه الحركة السردية.
وعربياً كان للصحافة دور مهم في أن تعبر الرواية على القصة القصيرة، بتقديم الرواية لجمهور واسع من القراء، في شكل قصص قصيرة تنشرها الصحف أو المجلات كحلقات مسلسلة، وأول القصص من هذا النوع قصة «ذات الخدر» التي كتبها سعيد البستاني المتوفى عام 1901 ونشر هذه القصة في صحيفة «الأهرام» عام 1884. ونشر نجيب محفوظ روايته «أولاد حارتنا» في حلقات مسلسلة في جريدة «الأهرام» عام 1959 ثم نشرت كاملة عام 1967. وضمن هذا السيناريو ظهرت «المرايا» في شكل كتاب في عام 1972 وقد أطلق عليها الناس، وليس الكاتب اسم (رواية) ولأن كل قصة مرآة لقصص أخرى، سميت مرايا كتوصيف وعنونة في الوقت نفسه. وهذا دليل واضح على وعي نجيب محفوظ النقدي، بمرونة الرواية وقدرة قالبها على الاحتواء لأنواع وفنون وتقانات، ومن دون أن يفقد قالبها استقلاله وفرادته.
وللروائيين والقصاصين العراقيين اهتمام بالتجريب على مستوى الشكل والتجنيس، وبعضهم طبَّقه عملياً ونظرياً، من ذلك ما جرَّبه الروائي جهاد مجيد في روايته «حكايات دومة الجندل» التي فيها تتداخل القصة القصيرة بالرواية، التي ستكون هي الاجناسية النهائية للحكايات. وعد القاص هيثم بردى عمله «أبرات» رواية قصيرة، لكنّ الرواية القصيرة في الحقيقة محتواة في جنس أرسخ منها هو (الرواية). ومثلها «جسر التفاحة» لعواد علي، التي جاءت في شكل مدونات قصصية قصيرة، انضوت في الرواية وكذلك سماها كاتبها.
وما أكثر ما ينضوي في جنس الرواية من أصناف وفئات كالقصة القصيرة جدا، أو الأقصوصة، والسرد القصير، وحلقة القصة القصيرة، والقصة الومضة، والرواية القصيرة والمذكرات ورواية اللارواية، والنص المفتوح واليوميات والاعترافات والخواطر، والأسطورة والحكاية، والسيرة والسيرة الذاتية، وغيرها من الأنواع والأشكال والصور والصيغ السردية، بيد أن النقاد تعاملوا معها على أنها أجناس. بينما هي في الحقيقة تداخلت أجناسيا بقالب الرواية، ثم تهجنت وامتزجت ثم انصهرت بعملية العبور الأجناسي، لتكون الرواية هي الجنس العابر الذي فيه أذيبت الفوارق بين قالبين أو أكثر، لصالح قالب واحد، وبامتزاج المادة المراد صهرها بالمادة المراد منها استيعابها وهضمها، تغدو المادة الأصلية هي الغالبة، وقد صار قالبها أكثر اتساعا وامتدادية، فزالت الاختلافات وانمحت الفوارق بين المادتين الصاهرة والمنصهرة، وصارتا شيئا واحدا داخل قالب واحد.

أهم مقوم من مقومات التجنيس هو الثبوت أولا، وتأتي بعده مواضعات العبور التي بها يكون الجنس متغيرا ومتحورا متبدلا، ومع ذلك يظل محافظا على ثبوت قالبه.

ومن الأنوع السردية التي تندرج في جنس الرواية السيرة Biography، التي هي على أشكال؛ كمدونات مذكراتية، وتسجيلات حياتية، وحوليات زمنية، توثق حياة شخصية عامة تركت أثرًا عبر مسيرتها الحياتية، فصارت الترجمة لها فعلا وطنيا وقوميا، يترجم مأساة شعب، أو نضال أمة جسدته في كنفها تلك الشخصية التاريخية. وأصل السيرة الذاتية مذكرات شخصية واعترافات أنوية، ويوميات خصوصية مدونة بلسان مؤلفها الذي هو ساردها. وعادة ما يكون مثقفا أو أديبا أو شخصية عامة، عاش حياةً حافلةً بالمتغيرات نجاحا أو إخفاقا، فحفظ ذلك كله في تدويناته، التي لا تخلو من توثيق لأحوال مجتمعه، الذي فيه خبر وجوده، ومعه نما وعيه. ولا تعود السيرة ممثلة لصاحبها الذي كتبها، أو الذي كُتبت له أو كُتبت عنه حسب؛ بل تمثل جيلًا وتجسد عصراً، كان صاحب السيرة جزءًا منه أبدع من أجله، سابرا إرثه، الذي تغلغل في وعيه ولاوعيه. وما يتداوله النقاد اليوم من مقولات حول السيرة، وكأنها جنس مستقل كالرواية، وما يضعه الكتاب على أغلفة أعمالهم من تسميات مثل (رواية سيرية، رواية سيرذاتية، مذكرات روائية، رواية اعترافية، سيرة روائية)، إنما هو في المنظور العابر للأجناس توصيف ثيماتي يظل في حدود المحتوى والتعريف بالموضوع وليس التجنيس الأدبي.
وقد يقال إن شيوع السرد السيري والترجمي ورائجية تداولهما، تستدعي من النظرية الأدبية إذعانا له وامتثالا لرغبته في الاستقلال بتجنيس منفرد، به، يضاهي سائر الأجناس السردية الأخرى، لكن ليس البت في أمر التجنيس مرهون بالشيوع وحده، ولو كان الشيوع هو المؤهل للتجنيس، لاعتد أرسطو بالحكاية الشعبية أو الخرافية ولسماها جنسا وبنى لها قواعد وأسسا.
إن أهم مقوم من مقومات التجنيس هو الثبوت أولا، وتأتي بعده مواضعات العبور التي بها يكون الجنس متغيرا ومتحورا متبدلا، ومع ذلك يظل محافظا على ثبوت قالبه. وقد سئل أدوار الخراط عن مفهومه للرواية فأجاب «الرواية في ظني الشكل الذي يمكن أن يحتوي على الشعر وعلى الموسيقى وعلى اللمحات الشكلية.. ولا يمكن أن تكتفي بكونها متابعة للشكل الذي عرفته الرواية في القرن التاسع عشر.. وسعيي هو أن أنطق بهذه اللغة حساسيتي وفكري.. أن أعطي صوتا لمن لا صوت لهم ولما ليس له صوت». وعلى الرغم من أنّ للسير أبعادها الأدبية وسماتها الجمالية، فإن من غير الممكن لها أن ترتفع إلى مصاف الرواية، لأن ليس لها القالب الذي يمنحها الثبوت، الذي به تمتلك أحقية عدَّها جنسًا متفردًا عابرا. وهو ما يجعلها قابلة إبداعيا لأن تتمظهر في جنس سردي أكثر منها رسوخا وتمركزا، مع أنه يمتلك مثلها قابلية التغير والانضواء وهو جنس الرواية، التي باستطاعتها احتواء السيرة، مذكرات كانت أو اعترافات أو يوميات أو خواطر أو تراجم أو تسجيلات، مؤرشفة ما فيها للتاريخ بعد أن تدمغه بالتخييل. وإذ تفتح الرواية للسيرة حدودها فذلك ناجم من اتساعية قالبها العابر إجناسيا على السيرة بكل أشكالها.

٭ كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    فشل إقتصاد الكيبوتسات، في تغطية حاجة ميزانية دولة الكيان الصهيوني بعد أكثر من 70 عام، على إصدار شهادة ميلاد (نظرية المؤامرة) وموضوع المهاجر الإقتصادي،

    هو أول ما خطر لي على ما ورد تحت عنوان (السيرة والرواية: من التداخل إلى العبور) والأهم هو لماذا؟!

    عقلية/فلسفة/أسلوب تفكير لطرح سؤال البيضة أولاً، أم الدجاجة أولاً، كردة فعل هو لتضييع الطاسة،

    هو أول تعليق على عنوان (العنصرية: أظلم ما في الظلم التعود عليه) والأهم هو لماذا؟!

    حملة (أنا أيضاً Me too) لمنع التحرّش، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر في بيئة أي عمل، أو مجتمع، أو وسط تطبيقات التواصل والاتصال في أي دولة أو داخل أي سوق، من أسواق العولمة، والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)،

    تعني إلغاء أي منتج لغوي، ذو أي مصداقية أو مشاعر إنسانية،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    وبالتالي إلى إلغاء مفهوم الأسرة أو مفهوم المسؤولية تجاه الآخر أثناء غيابه في أي علاقة من علاقات الشراكة لتكوين أي شركة أو مجتمع أو دولة، على الأقل من وجهة نظري، وليس فقط ما تم طرحه في نشرة الأخبار في الرابط التالي:

    https://youtu.be/n7-b81lJl-k

    اختار أنت، التقسيم على أسس ثقافة الأنا، أم التعايش والتكامل على أسس ثقافة النحن كأسرة إنسانية؟!

    https://youtu.be/dA1-JtBACeg

    المناقشة في الرابط، من وجهة نظري،

    تمثل مناقشة مفهوم الهجرة، بين لغة القرآن، ولغة الإقتصاد، على قناة الجزيرة، باللغة الإنجليزية؟!??
    ??????

    يا يعرب الطائي، يا صاحب نظرية وبراءة اختراع مسجلة في بريطانيا (فرح موني Farah Money)، العبرة ليس في المبلغ، العبرة في كيفية استغلاله؟!??

إشترك في قائمتنا البريدية