يظل إبهار السينما التونسية قائماً ومُعلناً، فهي أحد روافد التثقيف العربي وصوره الإبداعية المُهمة، غير أنها الوسيط المُتمرد القادر على النفاذ من ثقب الحرية المُتاح بفطنة صُناعها المُتمرسين على طرح القضايا السياسية في تضمينات اجتماعية ذكية للمرور من تحت مقص الرقيب بأقل الخسائر الممكنة، وهي اللعبة التي يُمارسها أصحاب الرأي، للحيلولة دون الصدام بالسُلطة وفقدان التواصل بالجماهير إذا ما تم تقويض المساحة المُتبقية من حرية الإبداع.
وقد يكون معمولاً بقانون التحايل الإبداعي في مُعظم الدول العربية ومن بينها مصر، فتجارب الإنتاج العربي المُشترك كشفت جزءاً من هذه الأزمة في مرات عديدة، وعبر نماذج سينمائية مُختلفة، بعكس التجارب الأخرى للإنتاج العربي الفرنسي، التي اتسعت فيها مساحات الحرية لتمتع المؤسسات المانحة بحصانة قوية تمكنها من ممارسة حق النقد إذا ما اقتضت الضرورة الفنية ذلك، وهذه الميزة استفادت منها أفلام مصرية وعربية كثيرة نذكر منها على سبيل المثال، مجموعة أفلام يوسف شاهين، «المُهاجر» و«المصير» و«الآخر» وغيرها. وعلى الصعيد التونسي كانت هناك تجارب أكثر تميزاً تمثلت في فيلمي «كلمة رجال» و«آخر ديسمبر» للمؤلف والمخرج مُعز كمون، والأخير بالتحديد أثار أزمة وقت عرضه قبل سنوات، كونه انتقد بعض الأوضاع السياسية، وتعرض لمُشكلات اجتماعية مهمة كمشكلة الهجرة باعتبارها من المُشكلات الرئيسية ذات الخلفيات الدالة على وجود أزمة بين المواطن والسُلطة في حينه، التي كانت بمثابة مؤشر قوي لقيام الثورة التونسية قبل اندلاعها.
وحسب القراءات النقدية لفيلم «آخر ديسمبر» لم تكن الرسالة مباشرة في هذا الصدد، وإنما جاءت مُتضمنة داخل مُعطيات السيناريو والتوظيف الفني لمفردات العمل ككل. وبالنظر لفيلم «كلمة رجال» فإن العنوان يحمل إسقاطاً على المُثقفين الثوريين من أصحاب الكلمة والرأي، حيث هم المعنيون دائماً بإحداث التغيير والمُعول عليهم في كل الأزمنة والمراحل، غير أنهم المنحازون بطبيعة الحال للشعب في معاركه مع السُلطة، وفقاً لمنطق المُعادلة التي يقدمها الفيلم ويشير فيها للأزمات الداخلية التي كان يعاني منها المواطن التونسي حينئذ.
وهناك أيضاً أفلام رومانسية كوميدية قدمتها السينما التونسية وارتقت من خلالها بمستوى الكوميديا، وعالجت في سياقها قضايا إنسانية مهمة، بعيداً عن اهتمامات المال والأعمال التي سادت لفترة طويلة في السينما العربية، وبالأحرى في السينما المصرية كما في أفلام عادل إمام، «شعبان تحت الصفر» و«رجب فوق صفيح ساخن» و«رمضان فوق البركان» وغيرها من النوعيات التي ناقشت فكرة الثراء السريع، ولفتت النظر إلى مُشكلات الفقر والعوز والطموح المجنون في تكوين ثروة طائلة بطرق غير مشروعة.
لقد برز البُعد الكوميدي في الأفلام التونسية كأهم عناصر السخرية، وتعويضاً عن لغة النقد المُباشر، وهو ما وضح في التجربة الأهم للمخرج إبراهيم اللطيف «7 شارع الحبيب بورقيبة» المُنتج في عام 2009 بالشراكة مع إحدى المؤسسات الفرنسية الداعمة لفكرة التعاون الثقافي السينمائي. وللمخرج الكبير تجارب أخرى لها اعتبار كبير من حيث المضمون والرؤية والتكنيك السينمائي، من بينها فيلم «فيزا» وفيلم «بورتو فارينا» و«عزيزة» وكلها تُمثل رصيداً مُدخراً للسينما العربية ينطوي على قوة إبداعية في المجال السينمائي الإقليمي والمحلي والدولي.
وتبرهن جائزة قناع عنخ أمون التي حصل عليها فيلم «قربان» للمخرج نجيب بلقاضي من مهرجان السينما الافريقية في مدينة الأقصر في دورته الحادية عشرة على المستوى المتقدم، الذي وصلت إليه السينما التونسية في نواح كثيرة، فقد ساعدت المهرجانات على استساغة الجمهور والنقاد المصريين للهجة السريعة التي كانت عائقاً أمام التواصل مع المُنتج السينمائي التونسي في فترات سابقة، فبالاعتياد صار الاستقبال أسهل ومن ثم حدث التفاعل، وبات في إمكان المُتلقي المصري التعرف على المُشتركات البيئية والمُجتمعية والإنسانية التي تربطه بالسينما التونسية، بوصفها رافداً ثقافياً عربياً يجب الالتفات لأهميته وتميزه على خلفية التعزيز المنشود للقوة العربية الناعمة في مواجهة الآخر الأمريكي، الذي يدعم بقوة الكيان الصهيوني ويقف بجانب إسرائيل في كل قضاياها المحورية وصراعها في المنطقة، لتحقيق حُلم التطبيع الثقافي على نطاق أوسع، وهي الأزمة البادئة منذ فترة طويلة والمُستمرة إلى الآن بجدلية الفرض والرفض والمقاومة.
كاتب مصري