السينما العربية الخارجة على القانون التجاري وقبضة الحُكام

■ النافذة الوحيدة التي يُطل منها الجمهور المصري على السينما العربية هي المهرجانات السنوية، التي تُقام تحت الرعاية والوصاية، وتخضع الأفلام المشاركة فيها لمزاج وذوق لجنة المشاهدة، وتتحدد عملية الاختيار ذاتها داخل المهرجانات بأطر ومقاييس لا تمت بصلة حقيقية للجمهور، الذي لا يعرف شيئاً يذكر عن طبيعة السينما العربية ومضامينها وأبطالها ومخرجيها وكُتابها، حيث يختزل البعض تاريخها كله في الفيلمين الشهيرين للمخرج السوري مصطفى العقاد، «عمر المختار» و«الرسالة» كونهما يتصلان بقضايا دينية ووطنية كبرى سُلطت عليها الأضواء، فانعكس ذلك على الحالة الجماهيرية والشعبية فأصبح الفيلمان هما دُرة التاج في إبداع العقاد مخرجا، بل وفي الإنتاج السينمائي العربي برمته.
وتأتي قضية الأمية السينمائية العربية في محيطها المصري كحالة فنية مثيرة للقلق، لاسيما أنها تتناقض مع دعاوى وشعارات التقارب العربي ـ العربي، ومحاولات تفعيل الثقافات القومية لتحقيق التجانس والانسجام المطلوبين لإتمام مشروع التكامل الثقافي السينمائي لمواجهة الثقافات الغربية والأمريكية والصهيوأمريكية.
في عام 2005 قام مهرجان القاهرة السينمائي برئاسة شريف الشوباشي بإقامة ندوة تحت عنوان «الاحتفال بالعرب في السينما العالمية»، حضرها النجم عمر الشريف كنموذج للفنان العربي العالمي، وقد تحدث الشريف عن تجربته الطويلة في السينما العالمية منذ أن اكتشفه المخرج ديفيد لين، وأتاح له الفرصة ليكون سفيراً للسينما المصرية والعربية في دوائر الإبداع العالمية، وعلى هذه الخلفية جاء السؤال الإجباري في حينه.. وماذا عن الاحتفال المصري بالسينما العربية؟ والسؤال إلى الآن لا يزال مطروحاً، فنحن بصدد المشكلة ذاتها، حيث التركيز كله ينصب على الاهتمام بالسينما الأمريكية والعالمية، في حين يفتقد الجمهور المصري الذي يمثل القوة الفاعلة في سوق التوزيع ودوران الحركة السينمائية، إلى أبجديات التواصل مع السينما العربية لأسباب قد يكون من بينها اختلاف اللهجات، الذي يسبب أحياناً ارتباكا لدى المشاهد العادي في عملية الاستقبال الأمثل، لما يُطرح من أفكار وقضايا تخص المحيط الاجتماعي المحلي أو المحيط الدولي، ولكن تُستثنى من هذه الإشكالية الأفلام التي تشتبك مع القضايا السياسية العامة، فهي تعتمد في لغتها التعبيرية على الخطوط العريضة الملامسة للهم العربي ككل، والمتجاوزة لفكرة الحوار كعنصر محوري في الإنباء بما تريد السينما الإنباء به، فضلاً عن بلاغة الصورة القادرة على إيصال المعنى بدون الحاجة للمزيد من معطيات التجاوب التقليدية.

تواترت التجارب السينمائية الهادفة إلى تحريك الماء الراكد في البحيرة العربية في اتجاه كسر حاجز الصمت، وتجاوز إعاقة الخرس فتكونت بفعل الدأب والإصرار والبحث عن الاختلاف والتميز

في تجارب بعينها تغلّب الجمهور على مُعضلات التواصل، سواء الخاصة باغترابه مع اللهجات، أو القضايا شديدة المحلية، فهناك أفلام معينة تم الاحتفاء بها، كتلك التي ناقشت القضية الفلسطينية ضمن ما ناقشته من قضايا سياسية مهمة، في إطار التعاون الفني الثقافي المشترك، مثل «باب الشمس» ليسري نصر الله، و»المخدوعون» لتوفيق صالح، وكذلك في التجارب الإبداعية الأخرى كـ»التقرير» و»الحدود» و»كفرون» لدريد لحام، بالإضافة إلى أفلام رشيد مشهراوي ومحمد بكري وهاني أبو أسعد، «عُرس الجليل» و»حتى إشعار آخر» و»الجنة الآن» و»حنين» و»من يوم ما رحت» و»خاص» وغيرها من النماذج اللبنانية والسورية والمغربية والتونسية والجزائرية والعراقية واليمنية، التي عرضت قضايا المجتمعات العربية من وجهات نظر متعددة، وفق الحالات المستهدفة، وتبعاً للأفكار والتجارب والمدلولات، ومنها على سبيل المثال، الفيلم اللبناني «زوزو» للمخرج جوزيف فارس، الذي يناقش قضايا إنسانية بالغة الحساسية في إطار عرضه لصورة الحرب اللبنانية عام 87، وما ترتب عليها من خراب ودمار ومآس كبرى، أثرت على شكل الحياة في بيروت، العاصمة التي تضارع في جمالها العاصمة الفرنسية باريس وتتفوق عليها.
وأيضاً قدمت السينما العربية حالات فريدة من إبداعها، تجلت في أفلام نوعية غايرت في أشكالها ورسائلها السائد والتجاري والمستهلك من الأفكار والصور، فمن العراق كانت هناك تجارب ناضجة تمثلت في فيلم «غير صالح للعرض» للمخرج عُدي رشيد، وفيلم «أحلام» للمخرج محمد الدراجي، ومن اليمن الفيلم المهم «يوم جديد في صنعاء» للمخرج بدر بن حرزي.
وكذلك استمرت مسيرة السينما السورية، التي قدمت الرؤية الأكثر تميزاً للمخرج محمد ملص في فيلم «الليل» وأيقونة المخرج عبد اللطيف عبد الحميد «ما يطلبه المستمعون» لتصل بنا إلى جيل آخر من المبدعين المسيسين أمثال نضال دبس، الذي قدم مجموعة أفلام تنوعت ما بين الروائي الطويل والتسجيلي، كان من أهمها فيلما «يا ليل ياعين» و»تحت السقف»، وقد عبر فيهما عن شجونه وأحلامه وهمومه السياسية، برؤى تنويرية انحازت للبسطاء والفقراء ودافعت عن حقهم المكتسب في الحياة.
ومن منطقة الشمال الافريقي جاء الإسهام السينمائي العربي غنياً بالتفاصيل الحياتية ومحاذياً للواقع السياسي، على خلفية إنسانية وثقافية عملت على دعم الثقة بين المصنف الفني والجماهير، وهو ما خلق مساحات واسعة من الإبداع المتفق علية، كالفيلم المغربي «الخبز الحافي» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب محمد شكري قدمها المخرج رشيد بن الحاج في قالب سينمائي شديد الواقعية ليدق ناقوس الخطر، ويحذر من مغبة الفقر والبؤس والعوز.. وقد نجح الفيلم نجاحاً كبيراً وشارك في العديد من المهرجانات، وحصد ما يستحقه من الجوائز.
وعلى المنوال نفسه تواترت التجارب السينمائية الهادفة إلى تحريك الماء الراكد في البحيرة العربية في اتجاه كسر حاجز الصمت، وتجاوز إعاقة الخرس فتكونت بفعل الدأب والإصرار والبحث عن الاختلاف والتميز، ملامح السينما المعارضة التي أشهرت أسلحتها في وجه الصلف والقبح، فبرزت أفلام مثل «الطحالب» للمخرج اللبناني ريمون بطرس «وبابا عزيز» للمخرج التونسي ناصر خمير و»دنيا» لجوسلين صعب وغيرها الكثير من الأعمال التي أبت أن تدخل في معية الأنظمة الحاكمة على حساب الشعوب.

٭ كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية