عمان ـ «القدس العربي»: يقولها القاضي العشائري الأردني الأبرز الشيخ طراد الفايز، من آخر المسافة وليس أولها، عندما يوجه التحية ليس للمقاومة الفلسطينية فقط، ولكن حصراً لقائد كتائب القسام ورئيس أركانها محمد الضيف، في اجتماع عشائري الطابع شرقي العاصمة عمان.
لا يتعلق الأمر هنا بالحضور الاجتماعي لحركة حماس وفكرة المقاومة بالأردن بقدر ما يتعلق بتلك الأهازيج والمداخلات والخطابات التي تأتي بصورة نادرة على ذكر محمد الضيف تحديداً، في مشهد غير مألوف اجتماعياً ولا سياسياً في الأردن، الأمر الذي يعكس تطورات في موقف البنية المكوناتية الأساسية للمجتمع الأردني وللدولة ومؤسساتها أيضاً لا بد أن تأخذ بالاعتبار عند أول منعطف في مراكز القرار يحاول قراءة مستجدات المشهد الفلسطيني.
الشيخ طراد الفايز نفسه وفي لقاء سابق رداً على استفسار لـ «القدس العربي» بعد إبعاده بقرار إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية العام الماضي، طالب حكومة بلاده بمقاربة سياسية تنسجم أكثر ليس فقط مع مشاعر وقناعات الشعب الأردني، لكن مع عقيدته الثابتة والمستقرة في مواجهة الأطماع والطموحات الإسرائيلية التي يعيد إنتاجها ضمنياً الغبار الذي قطع المعابر والجسور لمعركة غلاف غزة في اتجاه شرق الأردن.
آنذاك، قالها أيضاً الشيخ الفايز بوضوح موجهاً رسالة لكبار المسؤولين: نحن مع الدولة ومصالحها ومعكم بالدم قبل الأرواح، لكن مستعدون لربط أحزمة على بطوننا إذا تطور الخطاب في اتجاه إدراك حقيقة مخاطر التكيف مع اليمين الإسرائيلي.
المقصود هنا كان عملياً وقف التذرع بالمعونات والمساعدات الأمريكية ووقف التذرع بالفقر الاقتصادي الذي يجبر المملكة على اتخاذ مواقف سياسية محددة لم يعد من المأمون القول إنها كافية لحماية الخطر الوجودي الذي تؤسسه إسرائيل، ليس على الدولة الأردنية فقط كما شرح الشيخ الفايز، ولكن على الهوية الوطنية للشعب الأردني.
لكن الأهم سياسياً وفي الصورة الإعلامية، أن رموز المكونات الاجتماعية الأردنية وبعد عملية غلاف غزة المستمرة الآن، بدأت توجه التحية حصراً للقائد محمد الضيف، وتستذكر بكثافة أدبيات معركة الكرامة وشهداء الجيش العربي الأردني الذين سقطوا في مناجزة العدو.
ما الذي يتغير في الخطاب العشائري والشعبي؟
تلك بنية جديدة في إطار الموقف الاجتماعي كانت قد دفعت قبل أسابيع قليلة بنيامين نتنياهو للتحدث علناً عن عشائر شرق الأردن تعارض إسرائيل.
في البنية الجديدة، تلك الخطابات التي صدرت عن قادة آخرين في المجتمع بينهم الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الشيخ مراد العضايلة وهو يطالب أبناء العشائر والقبائل الأردنية بالتحشد في منطقة الأغوار، مستذكراً أحفاد حابس المجالي وكايد العبيدات ومشهور الجازي، وليس صدفة أن المشار إليهم من قادة ورموز العشائر في عمق البادية الأردنية.
مقاربة العضايلة هنا طبعاً سياسية بامتياز، وقبل الأحداث الأخيرة في غلاف غزة كان يبلغ «القدس العربي» مباشرة بأن الموقف السياسي الأردني يجب أن يتحول ليس فقط في اتجاه احترام مشاعر الأردنيين ومواقفهم، لكن في اتجاه التوقف عن إنكار مخاطر مشروع اليمين الإسرائيلي.
وتلك أيضاً مقاربة سياسية بامتياز، تحاول لفت نظر جميع الأطراف بالداخل الأردني إلى أن مصالح الدولة وليس الناس، ترعاها اليوم في الواقع الموضوعي المعاش قيادات تيارات المقاومة الفلسطينية، بدلالة تلك الأهازيج التي تخاطب محمد الضيف في رقصات ودبكات الأردنيين الآن، وبدلالة ارتفاع النبرة للقيادات المحلية التي تبارك وتؤيد علناً كتائب القسام، كما فعل الناشط العشائري والسياسي البارز محمد خلف الحديد، وفقاً لمضمون شريط فيديو أرسله لـ «القدس العربي» كان يعرف خلاله على نفسه وعلى أبناء العشائر الموجودين بصيغة «هنا كتائب القسام».
طبعاً، المقصود في تراكم مثل هذه الرسائل الاجتماعية العشائرية هو ممارسة إسقاط سياسي يتعامل مع اللحظة والإيحاء بأن خيار المقاومة الفلسطينية هو المستقر في الذهن الجماعي الأردني بعد ترنح اتفاقيات السلام، وفي ظل مخاطر التكيف والتعايش مع اليمين الإسرائيلي.
تلك رسائل ملغزة وعميقة في بنية العشيرة الأردنية المعروفة بوطنيتها عموماً، ينبغي أن يقرأها المطبخ السياسي للحكومة الأردنية جدياً وهو يتفاعل مع مسار الأحداث بعدما تم تثبيت الواقعة السياسية التي تقول ضمناً إن تفاصيل ما يحفظه ويقوله القائد الحمساوي محمد الضيف تمثل عملياً المطالب الإجرائية لطاقم الأوقاف الأردني في المسجد الأقصى. والمعنى هنا أن خطاب الضيف يناصر الوصاية الأردنية، وقد يكون خطاب المقاومة هو الوحيد الذي يفعل أو يقول ذلك اليوم أكثر من بقية الزعماء العرب.
لذلك، وبناء على المعطيات الجديدة، فإن خليطاً من صوت أبناء العشائر الأردنية مع أبناء التيار الإسلامي هو الذي يصعد إلى السطح اجتماعياً بوضوح عند رصد ميكانيزمات التفاعل مع «طوفان الأقصى» وبطولات المقاومين في غزة وتضحيات أهل القطاع.
ذلك في حد ذاته انعكاس عميق لمستوى تأثر الداخل الأردني بالموضوع الفلسطيني وتفصيلاته خلافاً لأن هذا المزاج العشائري والموقف الشعبي الأردني يصلح ـ إذا أراد القرار السياسي ـ كمادة دسمة وورقة رابحة تستعمل للحد من طموحات المشروع الإسرائيلي ولاستعادة ولو جزء يسير من ما فقدته الحكومة الأردنية من هوامش المناورة والمبادرة والدور الإقليمي أيضاً جراء الفاقد السائل لما سمي بـ «الإبراهيميات».